د. عيد بن مسعود الجهني
اهتمت مراكز التحكيم ببيان قواعد المحكمين وصلاحياتهم، ونصت على التزام المحكم بالإفصاح عن صلاته بالنزاع أو بالخصوم أو بالمحامين المدافعين عنهم - سواء كانت هذه العلاقة مباشرة أم غير مباشرة مهنية أو مالية أو اجتماعية، وإذا نشأت هذه العلاقة خلال نظر النزاع المتفق على التحكيم بشأنه فيجب على المحكم الإفصاح عنها كذلك - حتى يمكن للخصوم الموافقة على استمرار نظر دعوى التحكيم، أو يطلبون رد المحكم.
ويتعين على المتنازعين أن يتحروا عن المحكم ومدى علاقاته بأي طرف من الأطراف من شأنها أن تؤثر على سير الخصومة وتضفي نوعاً من الشك على حياده واستقلاله، حيث ذهب القضاء الأمريكي إلى أنه : لا يصح للخصم في نزاع التحكيم أن يجلس مسترخيا، ويعتمد كلية على التزام المحكم بالإفصاح عن الصلات التي قد لا تؤهله لنظر النزاع - وأنه إذا استمر الخصم في حضور جلسات التحكيم بينما تكون لديه معلومات عن انحياز المحكم، أو عن وقائع استجدت أثناء نظر النزاع من شأنها أن تؤدي إلى عدم صلاحية المحكم للقضاء.
وعلى المحكم قبل نظر النزاع أن يقدم إقرارا بأنه غير منحاز لأي من الخصوم، وانه لا يعلم بأي سبب يمنعه من العمل عضو في هيئة التحكيم والحكم في العدل في النزاع، ويتعهد بعدم قبول أية تعليمات ولا مقابل لنظر النزاع يزيد على ما قررته معاهدة تسوية منازعات الاستثمار - وكل ذلك طبقا للنموذج الذي نصت عليه المادة 6/2 من اللائحة التنفيذية للتحكيم لدى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدولة ومواطني الدول الأخرى المتعاقدة، كما أنه يترتب على عدم توقيع المحكم على هذا الإقرار حتى نهاية الجلسة الأولى لنظر نزاع التحكيم يفترض معه أن المحكم قد تنحى عن نظر النزاع.
ومن المهم التنويه بأن نزاهة المحكم شرط جوهري تفرضه طبيعة الأشياء وهذا الشرط يتطلب بطبيعة الحال أن يكون مستقلا عن الخصم تنقطع صلته به بمجرد اختياره، ويكون محايدا في رأيه فلا يتبنى وجهة نظر خصمه أثناء نظر نزاع التحكيم لأنه من المعروف أن هذه ليست وظيفته ولكنها وظيفة محامى الخصم - وإذا باشرها المحكم فإنه يفقد صلاحيته للقضاء، وهو ما يسمى «المحكم - المحامي» Arbitrator-Lawyer.
وقد يسمى «المحكم - الخصم «Arbitrator ــ Party وقد استقر القضاء في بعض الدول على أن قبول المحكم الضيافة المجانية على حساب الخصم دليل على انحياز المحكم وعدم صلاحيته للقضاء - بل إن بعض القوانين كالقانون المكسيكي نصت على تحريم قبول دعوات تناول الطعام على حساب الخصوم بالنسبة للقضاة والمحكمين، ولا يجوز أن يكون المحكم صديقا لأحد الخصوم، ولا يصح أن يكون مقيما في نفس المسكن الذي يقيم فيه الخصم.
ومن المبادئ التي استقرت عليها قواعد التحكيم في الهند اعتبار أسماء المحكمين من الأسرار التي لا يجوز إفشاؤها قبل القيام بنظر موضوع النزاع، والحكمة من ذلك الخوف من التأثير عليهم من جانب أي خصم مما يخل بمبدأ الاستقلال والحياد في التحكيم، فإن اعتبار النزاهة يملي الاحتياط وعدم الإعلان عن أسماء المحكمين ضمانا للنزاهة والعدل، ولهذا فقد انتهت المحكمة العليا في الهند إلى أنه يتعين على المحكم أن يحوز ثقة المتنازعين الذين اختاروه وان يتسم أداؤه بالشفافية والنزاهة والوضوح، لأن الخصوم هم الذين اختاروه ولأن وضعه يختلف عن وضع القاضي الذي يصدر حكمه الملزم للخصوم، وبالتالي فإن مبدأ الشفافية يقتضي من المحكم أن يكشف للخصوم عن كل ما من شأنه أن يؤثر على حكمه أو أن تثير ريبة الخصوم من سوء تصرفه.
وفي حكم لمحكمة النقض الفرنسية قضت بأن ثبوت أن المحكم شـريك في مكتب المحاماة الذي يدافع عن الخصم، فإن عدم علم الخصم الآخر بهذه الواقعة، وعدم إفصاح المحكم عنها من شأنه أن يبطل وثيقة التحكيم ـ كما قضت المحكمة الاتحادية السويسرية بإبطال وثيقة تحكيم لثبوت أن زوجة المحكم كانت تعمل مساعدة لمحام يدافع عن أحد الخصوم في النزاع المطروح أمام المحكم.
أما القضاء البريطاني فقد استقر على أن قيام رئيس هيئة التحكيم برفض سماع دفاع خصم في مسألة يجب أن تتاح له فرصة التعليق عليها يعتبر إخلالا بحق الدفاع يبطل الحكم، وأن عدم قيام هيئة التحكيم بعرض الأدلة على المحامين المدافعين عن أطراف النزاع ـ وعدم إتاحة الفرصة لهم لإبداء دفاعهم بشأنها، يعتبر خطأ جوهرياً في الإجراءات وسوء تصرف من المحكمين يبطل الحكم.
وكما هو الحال في أحكام القضاء، فإنه في حالة تعدد المحكمين يصدر الحكم وفقاً لرأى الأغلبية، وهذه هي القاعدة العامة يستوي في ذلك أن يكون هذا الرأي باتا ًيفصل في النزاع بصفة نهائية بأمر تصدره الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع بناء على طلب أحد من ذوى الشأن ـ كذلك فإن هذه الأغلبية مطلوبة بالنسبة للأحكام التمهيدية التي يصدرها المحكم أو المحكمين قبل إصدار الحكم النهائي، مثل إصدار حكم بإجراء من إجراءات التحقيق أو الإحالة إلى خبير حسابي أو هندسي.
ولا يجوز للمحكم أثناء المداولة أن ينقل للخصم الذي اختاره ـ أسرار المداولة بينه وبين باقي أعضاء هيئة التحكيم ـ ولا يجوز له بعد إصدار الحكم أن يفشي أسرار المداولة لهذا الخصم ـ حيث إن الحكم يصدر عن كيان قانوني هو هيئة التحكيم كما يصدر عن المحكمة متعددة القضاة.
كما لا يجوز له أن يخفي عن طرف في التحكيم ما قدمه إليه الطرف الآخر من معلومات أو مستندات لها علاقة بالنزاع، فإذا خالف ذلك الحظر يكون قد أخل بأحد الضمانات الأساسية لإدارة العدالة، وينطبق أيضاً ذلك على المحكم المرجح على ما يتلقاه من معلومات عن طرف في النزاع دون أن يحرص على التأكد من الإفضاء بالمعلومات ذاتها إلى المحكم عن الطرف الآخر.
وفي نظام التحكيم التجاري السعودي الجديد جاء النص على أنه (يجب أن لا يكون للمحكم مصلحة في النزاع وعليه منذ تعيينه وطوال إجراءات التحكيم أن يصرح كتابة لطرفي التحكيم بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكا لها ما يسوغها حول حياده واستقلاله إلا إذا كان قد سبق له أن أحاطهما علما بها، فتلك المادة أوجبت على المحكم أن يعلن كتابة أطراف اتفاق التحكيم بكافة الظروف التي من شأنها أن تحمل على إثارة الشك في جانبه وتوضيح مدى وطبيعة العلاقة بينه وبين أي من أطراف الاتفاق أو بموضوع المنازعة.
والله ولي التوفيق.