أ.د. يوسف بن أحمد الرميح
علمنا الشارع الحكيم أن من الصفات الحميدة الوفاء لأهل الوفاء, فما أجمل الوفاء لشريكة الحياة حيث يعلمنا المصطفى عليه الصلاة والسلام أجمل صور الوفاء للسيدة خديجة أم المؤمنين من حُسن للصحبة، واعتراف بالجميل، وقد ظلَّ وفيَّاً لها في حياتها وبعد وفاتها، حتَّى إنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم ينس أن يُحسن لصُويحباتها وكان خُلقه وحُسن تعامله ووفاؤه مع زوجاته -عليه الصلاة والسلام- تشريعٌ لمعاني الحب والوفاء، وكان يُعبِّر عن هذه المحبة ولا يُخفيها. ولعلَّ باكورة الاقتداء بهذا الخُلق العظيم جاء على يد أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» -رضي الله عنه-، وهو يرثي السيدة «فاطمة الزهراء» -رضي الله عنهما- في قصائد تفيض صدقاً ووفاءً ومحبة لابنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
وفي تاريخ أدبنا العربي يلوحُ لنا وميض بعض صور الوفاء مع الزوجة، ونقف في بعض العصور على نماذج قصص وقصائد للزوجات اللائي إن كان البعض قد عبَّر عنها على استحياء، فإنَّ البعض الآخر باح علناً عن مشاعره وصدق عواطفه، بأشعار وقصائد ما زالت محفوظة ومرويَّة في دواوين الشعر وسِجلاّت الأدب، فهذا «جرير بن عطية» وهو شاعر نجدي كان يسكن مدينة «حجر» التي تشملها اليوم مدينة «الرياض» يرثي زوجته وأُمَّ أبنائه بقصيدته المشهورة:
لولا الحياءُ لهاجني استعبار
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ
الوفاء لأهل الوفاء جاء من رجل عرف الوفاء وزرع الوفاء لمرأة هي بالفعل مدرسة للوفاء ونموذج حي للوفاء وتستحق أعلى درجات الوفاء, أنها المرحومة -بإذن الله- حصة صالح حمد الراجحي السيدة المثالية في تدينها، وفي أخلاقها، وفي تصرفاتها الرائعة دائماً في تعاملاتها مع الجميع.. دائمًا وهي تتصرف في كل الظروف مبتسمة مهما كانت صعبة أو حتى قاسية. فقد أحبَّها الجميع؛ لأنها تضفي على الجميع من حنانها وعذوبتها ورقتها وعلو نفسها.. فهي تتمتع بكل خُلق رفيع، ونفسية رائعة وسمحة.. أما خدمتها للعائلة فكانت فوق ما يتصوره أي إنسان، لا تفرِّق بين أولادها وبقية الأسرة؛ فالكل عندها سواسية؛ كلهم لهم كل الحق بالمحبة والتقدير والاحترام.
وقد ربت أولادها وبناتها أحسن تربية حتى وصلوا لمراكز مرموقة، كلٌّ في محيطه وتخصصه، وهم اليوم يخدمون بلدهم ومجتمعهم بمثل ما أخذوه من أمهم وصديقتهم الغالية ومن والدهم معالي الشيخ. ولقد بذلت المرحومة نفسها لإسعاد الآخرين في محيطها ومما يذكر فيشكر لها -رحمها الله- دفعها لأسرتها للعطاء الخيري والبذل والكرم, فنجد أن غرسها مع والدهم معالي الشيخ عبدالله النعيم أينعت مشروعات خيرية كبيرة ومهمة لخدمة الوطن الكبير والمجتمع المحلي ومن أمثلة ذلك قيام ابنتها البروفيسورة لولوة العبدالله النعيم بالتبرع بمرتباتها لبناء مركز صحي في حي شعبي بعنيزة يفتقر لهذا المرفق وتم منحة لوزارة الصحة للتشغيل, وبعدها شيدت مدرسة للبنات بعنيزة كذلك وأعطيت لإدارة التعليم للتشغيل. وهذا بلا شك يدل على التربية الراقية والكرم المتناهي والنبل المتوارث وإنكار الذات الذي اكتسبته الدكتورة لولوة من والديها ولو كانت ترغب في التجارة والاستثمار لأمكنها تشغيل هذه المرافق تجارياً بمردود مجزي ولكنها اختارت ما عند الله وهو بلا شك أبقى.. كذلك قامت شقيقتها الدكتورة نورة مع ابنتيها بالتبرع ببناء مدرسة بحي شعبي آخر بعنيزة بإسم زوجها الراحل رحم الله الجميع. وقامت البنت الصغيرة منال ببناء روضة للأطفال تدار الآن من قبل الجمعية الصالحية بعنيزة.
هذه المواقف مجتمعة تدل بكل وضوح على روح العطاء والبذل والإيثار الذي زرعته الوالدة المرحومة بالتعاون مع معالي الشيخ -يحفظه الله-.. ولا أدل من ذلك على الدعم الكبير لمعالي الشيخ سواء لمركز الملك سلمان بالرياض أو الجمعية الصالحية أو مركز الأميرة نورة في عنيزة وغيرها كثير.. ولعل نقطة في بحر البذل والعطاء تبرعه -يحفظه الله- في مبنى استثماري لصالح الجمعية الصالحية بعنيزة بتكلفة تزيد على عشرة ملايين ريال. وبلا شك عندما يجتمع قطبا الأسرة ويتكاملان على البذل والكرم والعطاء وإنكار الذات ينتج منتجاً رائعاً إنسانياً يدرس للأجيال. وخذ مثالاً واحداً فالمهندس علي بن معالي الشيخ تعرض لوعكة صحية تطلب تبرع أحد له فقامت ابنته الصغيرة سلمى بالتبرع بجزء من جسدها الصغير لصالح والدها لأنها ببساطة عاشت وترعرعت في جو ومناخ ممتلئ ومشبع بالإيثار والعطاء والبذل حتى من أجسادهم فلا غرابة بذلك.
لقد كانت صدمة قاسية للأسرة كلها وخاصة لمعالي الشيخ فقدانه لشريكة حياته ومهندسة نظامه الاجتماعي وملهمة روابطه الأسرية,, ولكن عزاءه وعزاءنا جميعاً ما قدمته المرحومة لأسرتها ولوطنها ولأبنائها مما سيتذكره الأجيال.. رحم الله الوالدة حصة الصالح الحمد الراجحي وجعلها في أعلى عليين من الفردوس الأعلى من الجنان وجعل ما قامت به رفعة لدرجاتها ومثقلة لأعمالها الصالحة. ومن هذا الموقع أرفع لعدد من المؤسسات الخيرية التي كان لمعالي الشيخ عبدالله العلي النعيم يد طولى في تأسيسها واستدامتها ودعم ومساندة لها خاصة الأقسام النسائية فيها بأن يسمى أحد الصروح الكبيرة باسم الوالدة حصة الصالح الحمد الراجحي -رحمها الله- تخليداً لذكرى تلك السيدة العظيمة والمباركة.