د. فوزية البكر
في التقرير المتميز الذي أصدرته مؤسسة الملك خالد الخيرية هذا الشهر (يونيو 2019) يتضح الاهتمام بقضايا لم تكن التقارير الرسمية في العادة تعني بها مثل: مفهوم السعادة/ مفهوم الترابط بين الإنسان وأرضه ومن حوله ومفهوم إشباع الذات والصحة النفسية والعقلية الخ. من المفاهيم التي هي أساسية لنا كأفراد ونعني بها دائمًا لكن قل أن عنيت المؤسسات العامة أو حتى العلمية بها باعتبارها قضايا (غير علمية وشخصية).
وقد استعرضت الدراسة عدة مؤشرات عالمية تبحث في قضايا الازدهار من مثل مؤشر التنمية البشرية ومؤشر رأس المال البشري ومؤشر التقدم الاجتماعي ومؤشر الثروة الشاملة ومؤشر التقرير العالمي للسعادة ومؤشر أهداف التنمية المستدامة وكلها مؤشرات عالمية معروفة لكن قل أن تشمل بشكل متكامل ومركز المملكة العربية السعودية إما لشموليتها العالمية أو لقلة الاحصاءات المتاحة عن السعودية لدى المنظمات التي تصدر هذه المؤشرات.
من هنا تأتي أهمية تقرير مؤسسة الملك خالد الخيرية باعتبارها نواة أولى ربما تشجع الباحثين في المؤسسات العلمية على الغوص في هذه القضايا بشكل أعمق وأكثر دقة رغم معاناة القائمين على التقرير، كما أشاروا من شح البيانات الإحصائية المتوافرة عن المملكة.
فمثلاً للتعرف على درجة التوازن التي يتمتع بها المواطن السعودي بين الحياة والعمل يلزم معرفة عدد ساعات العمل لكل نشاط ونوع الأنشطة التي يقوم بها العاملون في أوقات فراغهم وهو ما لا يتوافر اليوم.
وفيما يخص البيئة يوضح التقرير أن أغلب سكان المملكة يتعرضون لمستويات مهددة للصحة من تلوث الهواء حيث يستنشق 85 في المائة منهم معدلات عالية من الجسيمات العالقة في الهواء تتجاوز معايير منظمة الصحة العالمية ومعايير الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة وذلك في كافة مناطق المملكة عدا مدينتين محظوظتين (هل حري بنا أن نزحف للعيش هناك؟!) وهما حائل وتبوك (هنيئًَا لكم) وهو ما يفسر النسب الكبيرة للأمراض الصدرية ومشكلات التنفس وربما الموت المفاجئ.
أما عن المشاركة الاجتماعية والحوكمة فلاحظ التقرير ضعف مشاركة العامة في صناعة القرارات حيث تبدو نوافذ المشاركة المتاحة محدودة مثل نافذة الانتخابات البلدية التي يعد المشاركة فيها ضعيف على أية حال لكن تتأكد أهمية المشاركة العامة لما توفره من مساحة لتقدير الذات وتعزيز الانتماء للوطن وتفعيل حس المسؤولية الاجتماعية كما تساعد على التقليل من فرص الفساد أو الشعور بالاقصاء وضعف الحيلة.
ويناقش التقرير قضية الترابط الاجتماعي الذي يعزز التكافل والتكامل بين أفراد المجتمع بعكس العزلة الاجتماعية التي تولد السلبية السخط والتفكير السوداوي لكن كيف يمكن الكشف عن درجة الترابط الاجتماعي بين الناس؟ وكيف يشعرون به وكيف يعبرون عنه؟ أشار التقرير إلى صعوبات إيجاد مقاييس لهذه الأمور لذاتيتها الشديدة واختلافها باختلاف الثقافات فما قد يعد هجرًا ونكرانًا في ثقافة ما قد يعد وصلاً مقبولاً في ثقافة أخرى وهكذا لكن بسؤال العينة من السعوديين عن درجة شعورهم بالوحدة أجاب 64 في المائة بشعورهم الدائم بالوحدة! رغم أن أكثر من 87 في المائة عبروا عن وجود شخص يثقون به ويعتمدون عليه عند الحاجة وهذه النسبة مقاربة للنسبة العالمية واعتبرت الدراسة التطوع أحد المؤشرات المهمة على الترابط الاجتماعي باعتباره وقتًا مبذولاً من الشخص لخدمة قضايا مجتمعه حيث أوضح التقرير أن مفهوم التطوع بات مقبولاً ومشجعاً عليه في السعودية حيث قام 60 في المائة من الناس بالتطوع بوقتهم بشكل شخصي فيما قام 40 في المائة منهم بالتطوع عبر جمعيات أو مؤسسات أهلية وهذه في الحقيقة نسب مذهلة بالنظر إلى أن فكرة التطوع لا تدرس ولا تفعل في المدارس أو الجامعات كما هو الحال في كل بلدان العالم فمثلاً في الولايات المتحدة لا يستطيع طالب الثانوية الحصول على شهادة تخرجه إلا بعد إنهاء خمسين ساعة تطوع خلال السنوات الأربع للثانوية ولذا يوجد نظام واضح في المجتمع لتوجيه الطلاب للمؤسسات المحتاجة وتوجد أنظمة ونماذج واضحة يعرفها الجميع ويستمرون عليها بعد تخرجهم إذا ما أحبوا.
وعن درجة رضا السعوديين بحياتهم مما يشعرهم بالسعادة والامتنان كما يربطهم بأرضهم ووطنهم أشار التقرير إلى أنه ورغم الصعوبة البالغة في قياس نسبة الرضا لكونها شخصية وتتأثر باختلاف المفاهيم الثقافية المرتبطة بها غير أن إجابات السعوديين حول ما إذا كانوا راضين عن حياتهم أوضحت أن نسبة الرضا كانت 8.6 من 10 وهي أعلى من المعدلات العالمية التي بلغت 6.4 لكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن السعوديون قد لا يكونون صريحين بخصوص مشاعرهم للغريب وهو من يقوم بالدراسة بعكس الشعوب الأخرى التي لا تترتب على إجاباتهم إية تبعات اجتماعية تهم الفرد أو الأسرة التي ينتمي إليها ولذا فإن أخذ هذه النتيجة التي يتوصل إليها التقرير يجب أن تكون بحذر شديد مع ما أكده التقرير من ضرورة وجود دراسات أكثر تعمقًا في هذا المجال وتأكيده على أهمية المعالجة الجادة للعجوزات المرتقبة لصناديق التقاعد بما يحقق استدامة حسابات التقاعد التي تتعرض الآن لتهديدات واضحة بالعجز مما قد يهدد مفهوم الأمن الاجتماعي.
يبقي التقرير فريدًا في مجاله وفي القضايا التي تناولها حيث أكد فتح نوافذ عديدة للبحوث العلمية لتكون أكثر ارتباطًا بحياة الناس وهمومهم بدل هذه الموضوعات الزائفة الاصطناعية التي تخترعها بعض أقسام الدراسات الإنسانية في الجامعات ولذا لا عجب أن تبقى رسائلها فوق رفوف المكتبات الجامعية دون استخدام.