تعْبر الصورة إلى اللغة والعكس معلنة حالة تمدد ترنو إلى مناطق جديدة لم تطأها من قبل. ومصطلح الإكفراسيس (Ekphrasis) مصطلح لاتيني يعطي على نحو عام معنى «الوصف». ويعرِّفه معجم (Oxford) بأنه: «استخدام الوصف اللفظي بوصفه جهازًا أدبيًا للعمل الفني البصري». وتاريخيًا يعود هذا الفعل الأدبي إلى ما قدمه (هوميروس) في الإلياذة من وصف خطابي للنقوش المعقَّدة على درع صُنعت لـ(أخيل) في حرب طروادة.
إذن، نشأ هذا النوع الأدبي عند الإغريق، وهدفه الرئيس جعل القارئ يتصور الشيء الموصوف، كما لو كان أمامه؛ حيث إنه «خطاب وصفي يجلب الموضوع المعروض أمام العينين بوضوح حيوي». فتحفَّز كثير من الفنانين في عصر النهضة - القرن التاسع عشر الميلادي- إلى رسم أعمال فنية استنادًا إلى أوصاف مكتوبة، حينها أطلق بعض النقاد على هذا المصطلح / الإكفراسيس تعريفًا آخر هو «التمثيل اللفظي للتمثيل البصري» وهو تعريف يكاد ينحصر في إشارته إلى وصف أعمال النحت والفن المرئي في الأعمال الأدبية. ومن هنا، نتناول نص تلاش لماهر الرحيلي الذي مثَّل فيه الصورة البصرية تمثيلاً لفظياً/شعرياً كما لو أن الصورة تكاد تنطق بهذا الوصف اللفظي، فالمتلقي يبدأ بتتبع الألفاظ ومدى انطباقها على الصورة المصاحبة.
ولنتتبع هذا معًا، فمن لحظة اختياره موضع كتابة النص، الذي حطَّ في الزاوية اليمنى السفلى، بدافع مناسبة المساحة للكتابة ابتداءً، يبدأ التلقي، ممهدًا لجذب الانتباه بحجم الخط للعنوان، ثم تنطلق مرحلة تتبع التوصيف اللفظي المستوحى من الصورة، حين يقول:
«يزداد حولي ذا البياض وأنمحي»، فالبياض يظهر حصاره لذات الشاعر، والضمير المستتر «أنا» في الفعل «أنمحي» يعطي إشارة على التخفي بفعل التلاشي، الذي أتى من باب المواجهة؛ لظهور صورة الشاعر الحقيقية. ويبدو أن البياض بدأ منذ ساعة الإشراق حتى تجاوز حدود ساعات النهار، حتى «أمسى التلاشي» ملمح الصورة التي استقرت عليها. ثم يستمر التمثيل اللفظي بدخول عمق صورة الشاعر وبؤرتها الماثلة في الابتسامة التي تحاول مقاومة التلاشي، فبدت منهكة من زمنها القديم ثابتة على العهد، ومع هذا هي تستحي فاكتفت بتقويسة خد واحد تاركة الجهة الأخرى لاحتلال البياض.
وفي البيت الثالث يحتدم الصراع بين البياض والظلال ولم يقل الشاعر السواد مع أنه الضد له! وهذا يرجّح أن البياض هو النور، فنعود رابطين له بفكرة الإشراق التي كانت في البيت الأول؛ فهو ظلال النور الباعث على الأمل، والابتسام، وتجديد المحاولة.
إنه يأمر العينين بأن تفسح للبياض مكانًا، يريد نورًا يرفد الابتسامة التي قاومت حتى كادت تنتصر، فكيف لفأل العهد أن يرى دون عينين؟! هي معركة لم يحسمها الشاعر، وبدا متشككًا في البياض الذي بدأ بطمس ملامح صورته، مستسلمًا له؛ لأنه سيهيئ مسرح الأحداث لحضور مرتقب، يُحدث فيه الشاعر أثرًا جديدًا مدفوعًا بحسن الظن؛ لأن البياض لا يعطي تأويل الشؤم أو الخذلان، ووقتئذ «فلا شيء أجدر من بياض المسرح». ويلحظ على هذه الصورة أن الشاعر ينظر إلى نصه من أعلى مثنيا رأسه إليه، وعليه ملامح الفرح الخجول، والنظر بهذا المستوى للمنظور إليه يعطي انطباعًا بالسيطرة عليه حتى مع تشكيك الشاعر في قدرته على المقاومة، وهو انهزام مرحَّب به في ظل وجود الابتسام الدال على الرضا، فهو على الأقل انسحاب من أجل البياض، ثم العودة مرة أخرى من أجل لقاء جديد.
إن الحديث عن تمثيل الصورة لفظيًا التقاطة ذكية من الشاعر. وأستحضر في السياق ذاته أن عددًا من اللوحات العالمية تحولت إلى قصائد شعرية، منها: لوحة «الحقل والغربان» للرسام الهولندي (فان جوخ) الذي حولها إلى قصيدة الشاعر الألماني (بول سيلن) عام 1956م. ولوحة «الزرافة المحترقة» للفنان (سلفادور دالي) عام 1935م التي ألهمت الشاعر (بييت برشبيل) مع صور أخرى لغيره من الرسامين بين عامي 1963م - 19635م بتأليف ديوان كامل سمَّاه (الصور وأنا).
وأخيرًا، إن العلاقة التبادلية بين القصيدة الشعرية واللوحة تعيد لنا قولة شهيرة جدًا للشاعر الإغريقي (سيمونيدس) بأن «الرسم شعر صامت، والشعر تصوير ناطق». وبهذا يمكن القول إن اللإكفراسيس يمكن أن يكون منطلقًا من عمل حقيقي أو متخيل ولا مشاحة في كونه يأتي من نص أدبي أولاً كما كان في درع (أخيل) أو يستلهمه النص لاحقًا من عمل موجود، فينتج لنا عملاً أدبيًا رائعًا تذوب الفروق بين حدوده الفروق الأجناسية الصارمة.