مفهوم «الحضارة» يستخدمه مئات الآلاف من السياسيين والصحفيين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية، وحتى العامة من الناس في كل الدنيا. ويتم تقييم السلوك الفردي أو الجماعي أحياناً؛ على أنه حضاري أو غير حضاري!.. فهل يجوز إبقاء هذا المفهوم عائماً ليس له حدود؟ ويستخدمه من يشاء وكيفما يشاء وتجاه من يشاء دون قيود؟
مفهوم «الحضارة» في علم الاجتماع هو: تحول «المجتمع» البشري من الاعتماد على ما توفره الطبيعة من صيد وثمار، إلى الزراعة وتدجين الحيوانات؛ أي صناعة الإنسان لغذائه بنفسه. وهذا التحول تم في القرنين الأخيرين من الألفية العاشرة قبل الميلاد، في منطقة الرطبة وحوض الموصل وكهف شنايدر؛ حسب المكتشفات الأرخيولوجية (انظر- فراس السواح- تاريخ السومرية والأكدية). ولكن؛ هل بقي مفهوم الحضارة كما هو؛ حتى يومنا هذا؟
خلال 11200 عام من التطور لم يبق مفهوم الحضارة -كما المفاهيم الأخرى- مثلما نشأ أول مرة. فالنشاط الحضاري نشأ كضرورة لاستمرار الحياة على الأرض، والاعتماد على الصيد والثمار البرية لم يعد كافياً لتغذية كل المجتمع البدائي، وصناعة الغذاء أصبحت هي المنقذ الوحيد لذلك المجتمع. والنشاط «الحضاري» ذاك، لم ينقذ البشر من الهلاك وحسب، بل أنتج فائضا يسمى (ثروة)، أعادت هيكلة المجتمع إلى الشكل الهرمي، الذي نعيشه اليوم.
من هذا المنطلق؛ وخلال كل تلك الآلاف من السنين؛ بات كل نشاط يساهم في زيادة «الثروة»؛ أي ما نسميه اليوم «تنمية أو ازدهار»؛ هو نشاط حضاري. وكل النُظم التاريخية والحالية؛ من ملَكيات وقيصريات وسلطنات وجمهوريات وفيدراليات واتحادات:- هي إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية من أجل التنمية والإزدهار!
بهذا الشكل يكون معنى كلمة «حضارة» هو -تطور العلاقات الاجتماعية من أجل التنمية والازدهار. ومعنى النشاط الحضاري هو- كل نشاط فردي أو جماعي يساهم في تطور المجتمع. وأي نشاط معاكس لذلك؛ كالفساد والاستحواذ واللصوصية والاستبداد والاستعمار والمافيوية، هي أنشطة معادية للتطور الحضاري! ومن يمارس الأنشطة المعادية للحضارة؛ من مصلحته الآنية والتاريخية؛ أن يبقى مفهوم الحضارة عائماً ومبهماً يستخدمه من يشاء وكيفما يشاء!
** **
- عادل العلي