د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في تفاصيل تاريخ بلادنا العريق عبور طبيعي يعلنه المجيء المدهش في حاضر بلادنا اليوم، وتشدّنا حكايات الماضي المجتمعي بكل امتلاءاته؛ وتستوقفنا لهجات سرد الحكايات الملأى بقطوف البذل ومسارح الشجاعة في مسترادهم آنذاك؛ ويُذهلنا الإبداع الفطري الذي لم ترسم تفاصيله دراسة أكاديمية؛ أو تخطُ حدودَهُ معايير منتخبة! بل هو الطبع والتطبع وإثبات الذات التواقة باستثمار مقومات البيئة الاجتماعية، واستثمار المنح الربانية في العقول والأبدان؛ حيث كان الكفاح عشقا حتى الثمالة!
فهناك صفحات بيضاء ناصعة التفاصيل ترسم كفاح جيل طوّعَ التراب ليكون صناعة ثمينة في كل البيئات المفتوحة لتعكس مرايا النفوس آنذاك، وكان ذلك الجيل يسقي صحراء بلادنا ويروي فياضها من معامل تكرير لم تصنعها بلاد أخرى؛ ولم تُدفع أموال لاستجلابها حيث تتربع بلادنا وتفتح ذراعيها في كل المواسم لتلتقي روادا من أنماط شتّى، وتندمج مع الآخر دون برامج تحفيز ومسارد إقناع؛ ولقد كان أولئك في الضفة الأخرى يقاومون عقابيل الحياة؛ ولكن أهدافهم كانت أكثر وضوحا من منظار البندقية؛ وكل تعلق منهم ببقعة من الأرض له أسراره وله موجباته؛ فكانوا أرق مع أرضهم من الغيم, ولكنهم أصلب دونها من صخور السَراة!، وفي ذلكم الوقت والزمان الذي عاشه أجدادنا كانت كثير من فضاءاته دون مصابيح مدلّات تنُير الحنادس، فكانت بصائرهم تباري الكهرباء بريقاً وإشراقاً، وباختصار كانوا لمجتمعاتهم ووطنهم مثل تقنية اليوم في تيسير دروب المرور إلى بوابات الحياة، وإلى شد أزر بعضهم بعضا، فليتنا نتجاوز اليوم الصورة الذهنية لمجتمعاتنا التي أذهلها الحراك دون وصول؛ نتجاوزها بمنجزات مستقبلية تليق بنا أبناء وأحفاد أولئك الأفذاذ الذين تحدثت عنهم كثير من الطروحات ولكن على استحياء ربما لأن عمق المعرفة بهم يستحيل على الذين يدوّنون ويتحدثون، فقد يرد شيء عن كفاحهم في المجتمعات الشعبية، وعن صور ذلك الوجود النقي الذي يلتفون حوله، وعن النموذج القدوة الذي صنعوه لمجتمعاتهم القريبة، حيث كان صناعة لا يستطيع العالم بأسره فعلها لهم وعن شذرات الثقافة والتقاطات المعرفة المنقولة والشفهية التي كانت في حوزتهم.
لقد حاصرتهم السنون العجاف، ولبثوا فيها يذودون حتى يصدر الرعاء، حتى قلب الله حالهم إلى أعوام ممتدة فيها يغاث الناس وفيها يعصرون.
ولقد أعجبني قول أحدهم وإن بالغ مباهيا بذلك الجيل وما صنعوه في مجتمعاتهم من سديد الفعل والقول، يقول «لقد كانوا بامتياز أسعد أجيال الصحراء دون منازع، ولن يحقق جيل مهما ملك ما حققوه في حقبتهم الزمنية تلك من الحدب المجتمعي, والبناء الراسخ، حتى ولو لحسوا الآيسكريم في وديان (عطارد)، وجمعوا الكمأة من فوق (زُحل) وأشعلوا الغضى على (بلوتو)».
نعم كان في تلك الأجيال إمكانات ومعهم يقين يماثل الجبال رسوخاً، وكانوا يعبرون جسوراً عملاقة من الجد والحب وكانوا ينشرون المعرفة أنى وجدوها ولو كانت نزراً لتبقى فضاءاتهم خضراء قائمة رغم التحولات، فقد تبدأ مسيرة حياة أحدهم في مكان أضيق وأشقى، وقد تبدأ تحت ضوء خافت لمصباح أحرق الزمن فتيله، وقد يكون مسترادهم من الأرض صغيراً، ولكنهم يبصرون ما كان يفترض أن يشع فيه النور ويلتحمون فيه ومعه.
وكان ذلك الجيل المكافح لا يعترف بفترات الكمون الملازمة لصناعة استراتيجيات النهوض المجتمعية ولذلك تولدت في أوساطهم البسيطة مبادئ ومثلٌ؛ وهي قاعدة شديدة المرونة، مفادها أن البساطة وقبول الآخر هي التداول الحقيقي للحياة, ومن هنا فحكايات ذلك الجيل ونماذجه في المجتمعات المحلية الشعبية جديرة بفكر ممتلئ لتدوين تلك التفاصيل المطمورة وجمع شتات ما كان منه مدونا في مدونات فردية, وتقديم ذلك النتاج رافدا لثقافتنا المحلية فما زالت حكايات حضارتنا العتيقة تسكننا ونسكنها بكل تفاصيلها فالولاء لوطننا وقيادتنا قاسم مشترك ممتد عبر العصور والأجيال.
وذلكم توق نأمل من وزارة الثقافة الوليدة القافزة دعمه استراتيجيا فالأرض خصبة مكتنزة والبساط وثير، والآفاق الثقافية القادمة تنشد إرثا محفزا.