د.عبد الرحمن الحبيب
يقول الأصمعي: «كان للعرب كلام على معان، فإذا تبدلت لم يُتكلم بذلك الكلام. فمن ذلك قول الناس اليوم: «ساق إليها صداقها». وإنما كان هذا يُقال حين كان الصداق إبلاً وغنماً. ومن ذلك قول الناس اليوم: «قد بنى فلان البارحة على أهله». وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبة وخيمة، وذلك هو بناؤه.»
هذا تشخيص أولي للأساس الاجتماعي للغة، يرصد تبدُّل كلماتها وأساليبها بتبدُّل أنماط المجتمع وعاداته. وقد أكّد ابن خلدون أن اللغة تأتي «بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها»؛ وأن علوم اللسان العربي أتت لحماية اللغة العربية من فسادها؛ مذكِّراً ببداية علم النحو لأبي الأسود الدؤلي بمشورة علي بن أبي طالب حتى انتهت بالفراهيدي أيام الرشيد.
في ذات السياق، أظهرت العلوم الحديثة أن المجتمع يبدع داخل نطاق قاموسه اللغوي، أو كما يقول أشهر فلاسفة اللغة لودفيغ فيتغنشتاين (ت 1951): «حدود لغتي تعني حدود عالمي.» إذن، اللغة كائن حيوي، تقوى وتضعف، تعيش وتفنى، ليس بقوتها الذاتية، بل من خلال محيطها الخارجي، ومن ثم فهي بحاجة لحماية خارجية كي تزدهر..
إدراكاً من مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية لأهمية العمل التأسيسي لترسيخ مفهوم الحماية القانونية للغات الوطنية، باعتبارها مرتكزاً رئيساً للهوية، لا سيما في زمن العولمة الثقافية، صدر كتاب بعنوان «اللغة لا تحمي ذاتها».
«قد يستغرب البعض عنوان الكتاب أو سيتركونه لعموميته المفرطة مثلاً. ولهذا يتعين عليّ الإفصاح التام عن بواعثه وخلفياته. غيّرت العنوان في الأيام الأخيرة التي سبقت تسليمه للناشر ليكون: اللغة لا تحمي ذاتها. نعم هكذا. وقد جاء هذا التغيير الجوهري في سياق ما أحب أن أنعته بـ التوريط بالعنونة حتى لـ القارئ غير القارئ أو لنقل القارئ العابر، حيث أردت بهذا العنوان العام الموحي توريط القارئ معنا، أياً كان موقعه ونفوذه، وتحميله المسؤولية كاملة غير منقوصة حيال لغته الأم، فلئن كانت اللغة لا تحمي ذاتها بذاتها لعوامل بنيوية واجتماعية متشابكة، فهي بحاجة إذن إلى حماية خارجية...»
هذا ما كتبه بالمقدِّمة محرِّر الكتاب ومؤلفه الرئيسي د. عبدالله البريدي، موضحاً أن هذه العنونة المستفزة تساعد على سد ثغرات الكتاب لإيصال رسالة سافرة إلى عموم العرب بلغتهم؛ ولتأكيد أهمية تفعيل كافة أنواع الحماية للغة. الكتاب يتألف من أربعة فصول، شارك بتأليفها كل من: د. سالم السميري، د. محمد السلطان، د. إبراهيم الدغيري.
في الفصل الأول تناول البريدي أسس ومفاهيم الحماية القانونية للغات، بمنهجية علمية وأسلوب أدبي فخم. تفرّعت مواضيع الفصل إلى خمسة أسئلة تُناقش بإسهاب ليستخلص منها الإجابة. وتلك طريقة فذَّة في توضيح ما يستغلق على القارئ. السؤال الأول: «لماذا نحمي اللغة؟» يبحث في مسوغات الاهتمام بحماية اللغة، ليستخلص بأن اللغة في جوهرها هي هوية وليست مجرد أداة تواصل. ينتقل بعدها لمعالجة سؤال محوري: هل تحمي اللغة ذاتها؟ لتستنتج الإجابة بالنفي؛ مما ترتب عليه الانتقال لسؤال عن ماهية الحماية اللغوية وجوهرها. وختم الفصل بمناقشة سؤالين أساسيين: ماذا نحمي في اللغة؟ ليتشكَّل الجواب بحماية نظام اللغة وهيكلها، وحماية معجمها وآدابها. والسؤال الآخر: كيف نحمي لغتنا؟ مجيباً عبر مسارين كبيرين: حمايتها بالتشريع والسياسات والتخطيط اللغوي، وحمايتها بالتنمية والاستثمار والابتكار والتقنية.
الفصل الثاني، وأطول الفصول، تناول فيه السميري التشريع اللغوي من ناحية المفهوم والأهمية، وما تشمله من إجراءات وقوانين تتخذها الدول لحماية حق مواطنيها في التواصل اللغوي بلغاتهم الوطنية. وهنا تم التأكيد على الأهمية الاجتماعية والحضارية للغة، باعتبارها مكوناً رئيساً من مكونات الهوية ومن رموز سيادة الدول؛ وهي حق أساسي للمواطنين كفله القانون الدولي، وعلى رأسها «الإعلان العالمي للحقوق اللغوية». وقد تم استعراض تجارب: فرنسا، روسيا، الصين على المستوى العالمي؛ أما على المستوى العربي فكانت: العراق، ليبيا، الجزائر، الأردن.
ينقل السلطان الفصل الثالث إلى التجربة السعودية في الحماية القانونية للغة العربية، عارضاً مراحل الحماية اللغوية وهي الحماية الضمنية، والحماية الصريحة المباشرة وغير المباشرة. تناول بعدها أساليب الحماية وعلى رأسها اعتماد العربية لغة الدولة والتعليم. كما تناول مجالات الحماية القانونية للغة العربية، وقسمها إلى عشرة مجالات منها التعليم، والإعلام، والتجارة، والصحة، والقضاء. وخلص إلى أن الأنظمة السعودية الصادرة بشأن اللغة العربية نواة جيدة لبلورة «سياسة لغوية فعَّالة».
بعد الإفادة من التأسيس النظري في الفصل الأول، ومن التطبيقات الدولية في الثاني، والسياسات السعودية بالثالث، يختم الدغيري الكتاب بالفصل الرابع مقدِّماً مقترحاً واعداً لمشروع نظام وطني للغة العربية في السعودية، والنتائج المتوقَّعة منه حضارياً وثقافياً واجتماعاً، ومتناولاً بالتفصيل الآثار الوظيفية والاقتصادية والمالية المتوخاة منه.
فضلاً عن الأهمية العظمى لموضوع الكتاب فهو يأتي كعمل علمي تأسيسي متخصِّص في مجاله، انتقلت فصوله ومضامينه داخل الفصول بسلاسة موضوعية متناولة الجوانب التطبيقية بوضوح عملي. ورغم علمية الكتاب الصارمة فقد كان رحباً بأفكار رصينة وأسلوب أدبي فاخر.. هذا الكتاب القيِّم هدية مجانية يقدِّمها مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية..