د. أحمد الفراج
تمر الأمم بدورات أيدولوجية، وقد كانت فترة ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي هي فترة اكتساح المد اليساري الليبرالي، فهي الفترة التي شهدت إلغاء قوانين الفصل العنصري، وإقرار قانون المساواة بين السود والبيض في أمريكا، كما شهدت موجة الاحتجاجات ضد حرب فيتنام، التي ساهمت في خروج أمريكا شبه مهزومة من تلك الحرب، التي مات فيها وأصيب أعداد كبيرة جدا، كما شهدت تلك الفترة أكبر موجة تحرّر يشهدها الغرب، خصوصا فيما يتعلق بالحريات الاجتماعية وحقوق المرأة، ثم بدأت الموجة في الانحسار مطلع تسعينات القرن الماضي، وبدأنا نشهد صعود موجة التديّن والمحافظة، وكنت شاهدا على ذلك خلال تلك الفترة، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي زلزل أمريكا والعالم معها، بدأ صعود اليمين، والذي أخذ يزداد اتساعا، انتهى بانتخاب الرئيس ترمب، في معجزة تاريخية غير مسبوقة.
كانت الدورات الأيدولوجية تسيطر على مفاصل كل شيء تقريبا، ولكن الأمر مختلف هذه المرة، إذ يتنازع أمريكا تيّاران أو أيدولوجيتان متضادتان جذريّاً، أيدولوجية اليمين، أو أقصى اليمين إن أردنا الدقة، والتي تمثلها إدارة الرئيس ترمب، والصقور مايك بومبيو وجون بولتون وجينا هاسيل، وأيدولوجية أقصى اليسار، التي يمثلها المرشح الديمقراطي، برني ساندرز واليزابيث وارين، ولا شك أن هناك انقساماً حادّاً في المجتمع الأمريكي حالياً، فأيدولوجية اليمين تحكم، وسط معارضة غير تقليدية من اليسار الشرس، الذي تمثله مؤسسات المجتمع المدني، ومعظم الإعلام التقليدي بكل أشكاله، ومن أراد أن يشاهد الانقسام عياناً، فليتابع قناة إم إس إن بي سي، ومذيعيها مثل كريس هيز وريشال مادو، ومذيعي سي إن إن، دان ليمون وكريس كومو، ابن حاكم ولاية نيويورك السابق.
وعلى الطرف الآخر والمضاد، هناك قناة فوكس نيوز، ومذيعيها شان هانيتي وتيكر كارلسون، فالأمر لم يعد اختلافا تقليديا بين أحزاب سياسية، كما كان سابقاً، بل حرب أيدولوجية وعداء شرس، تمثّل في قضايا كثيرة، منها ترشيحات ترمب لقضاة المحكمة العليا، وسياسة إدارة ترمب تجاه المهاجرين، فما حدث أثناء استجواب مجلس الشيوخ لمرشح المحكمة العليا، القاضي بريت كافاناف، كان حربا شعواء بين أيدولوجيتين، ولم يكن أبدا خلافا تقليديا، مثلما يحدث عادة، ومن يتابع المشهد عن كثب، يلحظ أن المد اليساري الليبرالي هو الذي يكتسح بقوة، ولكن لا يجب الاستهانة بالمد اليميني، الذي ينذر بخطر جسيم، فيما لو تمكّن سياسياً خلال الأعوام القليلة القادمة، وهذا ما ستكشف عنه الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة عام 2020، فلنتابع ونترقّب.