د. علي بن فايز الجحني
لا شك أن المفاوضات عملية ديناميكية تتم بين طرفين أو أكثر لحسم نزاع ما في مواضيع مختلف عليها، ويسبق هذه المرحلة أمور عدة: المناورات بين الطرفين أو الأطراف، والتجييش والتصعيد، والرسائل، والمد والجزر، وتبادل الاتهامات، إلى غير ذلك، وصولا إلى مرحلة المفاوضات المباشرة والجلوس وجها لوجه في نهاية المطاف، وكلا الطرفان: الولايات المتحدة الأمريكية، والنظام الإيراني يتقنان هذا التكتيك.
من المقطوع بصحته أن النظام الإيراني هو الطرف الذي يتصدر المشهد بالتصعيد وتوتير العلاقات، ودعم الإرهاب، والتدخل في شؤون الدول عبر تاريخ طويل، وسجل حافل بالإرهاب والعدوانية منذ قيام الثورة الخمينية، فنرى النظام تارة يستخدم أذرعته وعملائه في المنطقة للقيام بالهجمات الإرهابية والاعتداءات، أو يتصدر ذاته المشهد جهارًا نهارًا، من خلال بعض القوى داخل النظام نفسه ومنها: الحرس الثوري بتعليمات من المرشد علي خامنئي.
أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية منظومة صواريخ وحاملة طائرات وقاذفات قنابل إلى الخليج وإلى قواعدها في قطر ومنصاتها في البحار، وسط تصاعد وتوتر علني بين الطرفين وحرب كلامية مستعرة، وشددت أمريكا الخناق الاقتصادي على إيران، والهدف إخضاعهم للمفاوضات من جديد حول الملف النووي ووفق الأجندة والشروط الأمريكية المعلن عنها، وواكب الأزمة الحالية بين الطرفين تصريحات وتهديدات، كعادة الإدارات الأمريكية في كل عهود رؤسائها السابقين بدءًا من الرئيس الأمريكي كارتر الذي خطط ومساعديه لعملية عسكرية فاشلة لتحرير الرهائن الأمريكان المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران وعددهم (52) شخصًا، وأطلقوا حينذاك على العملية الإنقاذية «مخلب النسر» لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، وقتل (8) جنود أميركيين وأصيب أربعة آخرون، وكل الرؤساء الأمريكان من تلك الفترة إلى فترة حكم أوباما له قصة تثير الدهشة والاشمئزاز مع هذا النظام الإرهابي، بل وتثير أكثر من علامة استفهام رغم ما ارتكبه من إرهاب ضد أمريكا نفسها ودول أخرى، فهل يا ترى يختلف ترامب عمن سبقه أم أنها كما يقال «نسمع جعجعة ولا نرى طحنا».
إن المتابع يلحظ أن إيران، وأيضًا إسرائيل يحتلان مكانة ما لدى جماعات الضغط وجماعات المصالح، والموالين لهم في واشنطن وبعض العواصم الأخرى، من أجل ذلك يتحرك صناع القرار في البيت الأبيض وعين على الانتخابات القادمة، وعين أخرى على تلك الجماعات والموالين، وعلى ما قطعه ترامب على نفسه أثناء حملته الانتخابية.
إن أمريكا ليست في وضع يجعلها تدخل في حرب شاملة مع إيران إلا إذا ارتكب النظام الإيراني حماقة معينة وتهورًا ما فستكون أيضا المعالجة معالجة جراحية محدودة.
أما الطرف الثاني وهم ملالي إيران فهم سيستمرون في تدخلاتهم وتهديد حرية الملاحة، ودعم الإرهاب، واستعراض القوة، بما فيها هجمات إرهابية عن طريق وكلاء الشر، وربما في القادم من الأيام ستشهد الساحة المزيد من المناورات، ودفع الأمور إلى حافة الهاوية أكثر، متجاهلين أنهم ليسو في الحقيقة إلا: «نمرًا من ورق» وستستمر الرسائل، والتصريحات المتضاربة للإرباك، وطلب العطف والمساعدة من أصدقائهم في محاولة لخفض التوتر مع الأمريكان والحصول على مكاسب في المفاوضات الآتية، أو أن يحصل تراجع في سياسة الرئيس ترامب، أو على الأقل كسب مزيد من الوقت لحين الانتخابات القادمة، أو يبرز أي مؤشر مفاجئ من الدول الكبرى، أو وساطة مقبولة.
إن هناك مؤشرات على الساحة الإقليمية والدولية يمكن أن يلتقطها النظام الإيراني، ويقبل بالمفاوضات، وإن هو أهدر فرصتها فسيكون مجبرًا فيما بعد على «تجرع كأس السم» الذي تجرعه الخميني عند موافقته على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الذي بموجبه أنهى الحرب مع العراق عام 1988م.
إن دول مجلس التعاون الخليجية المتضررة من النظام الإيراني وفي مقدمتها المملكة وبحكم الدور والتاريخ والجغرافيا وتجارب الماضي تراقب الوضع وتتعامل مع جميع الاحتمالات بحنكة وحكمة واقتدار، ولا يمكن أن تستدرج في أي صراع يعرض مصالحها للتهديد، وفي نفس الوقت فإن أمنها وأمن شعوبها ومصالحها وسيادتها خط أحمر، يقول سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في حديثه مؤخرًا لجريدة الشرق الأوسط، إن المملكة «لا تريد حربا في المنطقة» لكننا «لن نتردد في التعامل مع أي تهديد لشعبنا وسيادتنا ومصالحنا الحيوية».