عبدالعزيز السماري
السلوك البشري يختلف من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ولكن تظل ملكة التفكير الحد الفاصل في مسألة التصنيف الاجتماعي الأشهر، إلى مفكرين وعوام، والعقل البشري مخلوق عجيب يتميز عند البعض بإفراز لا يتوقف للأفكار، في عناء البحث عن المعلومة والحقيقة..
بينما يفضل العوام كما يُطلق عليهم أسلوب التلقين والأخذ بالإجابات الجاهزة من قبل مروجيها، وكان هناك استثناءات خاصة للعلماء والمفكرين للتفكير بمنهجية بدون قيود، بينما لا يُقبل ذلك من العوام، لأنهم إن فعلوا تحدث الكارثة، ولكن لماذا؟..
يقول الإمام الغزالي إن «الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلالة»، والشك المنهجي قال به المفكرون منذ القدم، واختلف، في أمره، علماء المسلمين، ومن قال به أولاً، فقيل الجبائيان، وقيل الجاحظ، والأشهر كان الغزالي..
لكنه استقر عند ديكارت ديكارت «1596-1650» رائد الفلسفة الحديثة، والذي أطلق عبارته الأشهر أنا أفكر إذن أنا موجود، وتبنى مذهب الشك المنهجي في التفكير، وكان ذلك الإعلان عن حرية التفكير وإطلاق العنان للأفكار للجميع بدون استثناء أو خصوصية، ولكن على شرط الالتزام بالأسلوب العلمي والمنهجي.
لكن من الخطأ تجاوز رؤية صاحب الإنجاز الأهم في تاريخ الإنسانية، العالم الأبرز في تاريخ البشر ابن الهيثم، والذي قال إنّه كان يتحرّى إثبات الحقيقة، ولم يكُن مهتمّاً بإثبات الشائع من الآراء، وهذا ما جعل كتابه المِنظار زاخراً بكلّ ما هو مفيد، كان يرفض المسلّمات الموروثة غير المُثبَتَة؛ إذ كانت كلّها بالنسبة له نظريّات فيها الشّك والجَدل، كما أنّه كان يعتمد في منهجه العلمي منهجيّة الاستقراء والتي تقوم على ابتكار القانون العام من مجموعة وقائع خاصّة تُعمَّم على ما يشابهها في جوهرها..
هذه مقدمة تاريخية لمبدأ فرطنا فيه، فقد أدى انتصار التخلف إلى إقفال العقل أمام ملكة التفكير، ومحاصرته في خنادق مظلمة، وقد لا يجدي أن نستذكر ما حدث من سقوط للحضارة بسبب محاربة التفكير، ولكن الآن نمر في مرحلة قد تكون فرصة للخروج من الخندق، وهو إعادة تأهيل التعليم، وتقليل التلقين والتخلص من أساليب التعليم غير المنهجية.
لابد أن يعتمد منهج التعليم الجديد، مبكراً، على إذكاء ملكة التفكير والبحث عن المعلومة، والعمل على إثبات صحتها، فالحقيقة لها وجوه مختلفة، وذلك لتجاوز أساليب التلقين، وبالتالي يتحول المجتمع بالتدريج إلى مرحلة الإبداع والإنتاج العبقري، وهو الطريق للخروج من الجمود والتخلف، ويكون ذلك بتشجيع البحث العلمي من مراحل المدارس الأولى، فعليهم أن يتعلموا أن الحقيقة أمر شائك، وأن الوصول إلى جوهرها يتطلب عملا شاقا من العقل.
من خلال تعميم وتقنين التفكير المنهجي ستختفي العوازل بين المفكرين والعوام، فالتفكير حق إنساني، ولكن يحتاج إلى تربية مبكرة في المدرسة، ولهذا يكون التعليم أهم قطاع في بناء التنمية الحديثة، ومن خلاله تستطيع الدول إنتاج مستخرجات بشرية قادرة على البحث عن العمل والناجح بدون وسيط أو مساند.