د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«البومارانق» أداة صيد نصف دائرية لدى سكان أستراليا الأصليين، وتتميز بأنه كلما قذف بها صاحبها عادت إليه، وأحيانًا تعود إليه وتصيبه في مقتل. وهناك مبدأ سياسي، يرى أن كل ما تفعله الدول بشكل مرحلي آنٍ لا استراتيجي لا بد أن يعود عليها مستقبلاً؛ لذا لا بد من درس الآثار بعيدة الأمد للسياسات.
نظرة بسيطة لوضع عالمنا العربي، توضح أننا ما زلنا نعاني من مبدأ سياسة البومارانق مما يقارب ثلاثة عقود. حروب تتبعها حروب، تدخُّلات تتبعها تدخُّلات.. بل إن المأساة هي أنه لا تلوح في الأفق العربي أي بادرة لإنهاء هذه الصراعات المتتابعة التي استنزفت الأمة، وجلبت لها التدخلات من كل حدب وصوب.
نظرة سريعة لسوريا والعراق، وغيرهما على سبيل المثال، تثبت مدى رخص الدم العربي؛ فالصراعات المتواصلة جعلت مناظر قتل العرب، خاصة السنة، وحرق قراهم، وهدم مدنهم، أمرًا معتادًا، إن لم يتحول - للأسف - إلى أمر مقبول.. وستدمي قلب من له أية ذرة إنسانية مشاهدة الشيوخ والنساء والأطفال تحرقهم الطائرات كل يوم في أماكن مختلفة من عالمنا العربي فيما لو تخيل لوهلة قصيرة أن له رابطًا أو علاقة إنسانية بهم، وتوقف على النظر لهم كأرقام في المواد الإعلامية. أحيانًا تتخيل أن بعض الدول تقصف مدنًا عربية لمجرد تغذية قنواتها الإخبارية.
الصراعات في منطقتنا تحوَّلت لصراعات موسمية كالأعاصير المدمرة التي تشهدها بشكل دوري المناطق المتاخمة للمحيطات باستثناء واحد فقط، هو أن العالم أجمع يهب لمساعدة ضحايا الأعاصير، ويوفر لهم المأوى والمأكل والرعاية الصحية، بينما تهب بعض الدول ذاتها التي تقدم المساعدات لضحايا الأعاصير بتقديم السلاح والذخائر والمرتزقة لضحايا الصراعات العربية لتغذية الحروب وتجويع الشعوب.
وهنا يتم طرح سؤال بسيط: ما الذي حل بأخلاق بعض العرب؟ ما الذي جعلهم دائمًا متلهفين لتلقي أية مساعدات أو أسلحة أو أموال من أيٍّ كان ليقتلوا بها شعوبهم؟ دول مثل إيران وتركيا أصبح نفوذها يتغلغل في دول عربية مثل السكين في قطعة الزبدة، لِمَ لا؟ فالقاتل الميليشياوي عربي، والضحية عربية، فخار يكسر بعضه كما يقول المثل العربي. هل بلغت شدة الكراهية بين العرب من أبناء البلد الواحد هذا الحد؟ هل أصبح القتل والاقتتال هو الحل الوحيد لخلافاتنا؟ وإلى متى يقدَّم أطفالنا وشيوخنا وشبابنا قرابين لهذه الخلافات؟
ما نشهده اليوم من أمور مأساوية سيبقى بيننا لزمن طويل؛ فأسوأ ما في الحروب ليس دمارها فقط، وليس سلب الأمم من مقدرات نموها وتطورها، ولكن العداوات والبغضاء والرغبة الملحة في الانتقام التي تبقى لعشرات السنين؛ لتشعل حروبًا أخرى. فتاريخنا مليء بحروب قبلية، بعضها دام لمئات السنين، وكان أساسها سهمًا وُجِّه لضرع ناقة. مليء بحروب طائفية، بعضها بسبب خلافات في أمور هامشية في الدِّين، لا تقدم ولا تؤخر، مثل رفع السبابة في التشهد؟ وما زال بعض العرب يسل سيف السلف: البتار، والغدار، وذا النصلين في زمن تدار فيه الحروب بالصواريخ من الفضاء. فقدرة بعضنا الاستثنائية تتجلى في اجترار الأحقاد والثارات من الماضي.
هذا الوضع بالطبع يسرُّ العدو، ويغيظ الصديق؛ فكل ما على العدو هو إثارة قضية بسيطة، لها صلة بالنعرات القبلية والدينية؛ لتحول أسد العرب ذلك إلى حرب ضروس، تقضي على الأخضر واليابس، وتجتر معها كل الكراهيات والصراعات التاريخية؛ فتتحول مقدرات الأمم من تعليم وصحة وبناء إلى أسلحة وأدوات قتل، بعضها بالية، يريد أصحابها مقايضتها بمستقبل أمتنا، وحرقها كنفايات في صراعاتنا.
قد يرى أحدهم عن حُسن نية لوم تجار موت وحروب كالحوثي، أو داعش، أو الحشد الشعبي وغيرهم، فلا سبيل لإحصاء الميليشيات المتأهبة لقتل أطفالنا وشيوخنا، وهدم مدننا وقرانا. ولكن يبقى السؤال الأهم: كيف تلوثت أوطاننا بمثل هذه الميليشيات؟ لِمَ وُجد التأهب لمد اليد لكل من يقدم المال والسلاح لاستدامة مسلسل الدمار؟ إنها البومارانق التي ألقى بها البعض عبثًا في سماوات منطقتنا على اعتقاد أنه يملك السيطرة عليها، ولكنها - للأسف - خرجت عن السيطرة.
البعض -للأسف- تعوّد على الحرب، اقتصاد الحرب، مناظر الحرب، أصوات الحرب، قتل الحرب، دمار الحرب؛ فهو وُلد ونشأ وترعرع في الحرب، ولا يملك أي تصور للعيش خارج دائرة الحرب. تحول عالمنا العربي لطاحونة معدات لمخلفات العالم من الآلات الحربية. وسنبقى أجيالاً ننظف آثار هذه الطاحونة فيما لو توقفت.