د.فوزية أبو خالد
انفتاح مبكر وأطياف معرفية
لم يكن للمملكة العربية السعودية على مستوى مشروعها التأسيسي للتعليم الجامعي والعالي في بدايته موقف مغلق من التعدد المعرفي بدأ بتولي د. عبدالوهاب عزام منصب أول مدير لجامعة الملك سعود في الخمسينيات الميلادية.. ومرورا فيما بعد الستينيات السبعينيات والثمانينيات.. بوجود المفكر الإنثروبولوجي السيسيولوجي التقدمي الكبير د.طلال أسد ضمن الكوادر الأكاديمية التأسيسية الأولى لقسم الدراسات الاجتماعية ووجود عدد من الأسماء المشرفة في كتابة بواكير هذا التاريخ. ومن هذه الأسماء المعرفية العالمية على سبيل المثال د. عبدالوهاب المسيري، د.نذير العظمة، د.علي أبو ليلى، د. نجوى إبراهيم، د.ناديا حليم،د. إدريس الحسن، د.بلقيس بدري، د.سو الفيصل، د.يكن أرتورك من تركيا والبرفسور الإيراني د. محمد أسعد نظامي تالش الذي أقدم في هذا المقال والمقال القادم شهادة زميلة وشهادة طالبة من طالبات وطلاب علمه وبحثه المعرفي العميق الغزير. وهي شهادة وفاء صغيرة في حقه الكبير على طلاب العلم بجامعة الملك سعود وزملائه، وقد انتقل إلى جوار ربه في شهر مارس من هذا العام 2019 رحمة الله عليه وأثابه الله عن علمه في مهنة المعلم المخلص وهواية الباحث المتفاني.
***
الحنين إلى الدرعية
ذلك المحيا الحيي وتلك القامة الحانية تواضعا بما تحمله نفسها التواقة من نفائس العلم ظهر أمامي للمرة الأخيرة على مد البصر لكنه لم يختف قط ولن تغيب شمسه المعرفية وإن رحل د. نظامي.
حملني الحنين في ظهيرة يوم ربيعي نادر من أيام نهاية الصيف بداية الخريف عام 2009 إلى سكن جامعة الملك سعود الرئيسي بالدرعية بعد ثلاث سنوات من مغادرتي ذلك المكان الذي قضيتُ فيها زهرة عمري، إلا أن المفاجأة كانت أن أجد أمامي د. محمد أسعد نظامي وزوجته ناجية يتمشيان بالقرب من ملاعب مبنى ستة حيث كنتُ ألاحق أطياف أطفالي في ذلك الملعب.. لم أصدق أنني وجه لوجه مرة أخرى قبالة تلك القامة النخيلية المحملة بعذوق المعرفة ومرآتها الظليلة فأخذتُ أفرك عيوني لئلا يكون قد اختلط أمامي شريط الذكريات بالواقع فقد كان قد مضى على مغادرة د. نظامي وزوجته للمملكة عدة أعوام.. مفارقة المفاجأة أن د. نظامي والسيدة ناجية كانا مثلي قد حملهما الحنين للتجول في السكن بفارق أنهما أتيا خصيصا للرياض من زيارة عمرة بعد انتقالهما للعيش بأمريكا للعبور بربوع الدرعية مقر جامعة الملك سعود وسكن أعضاء هيئة التدريس.
سرنا معا د. أسعد نظامي والسيدة ناجية وأنا مصحوبين بسرب من أخيلة الجيران والزملاء د. نذير العظمة، د. الغذامي، د. سعد الطخيس، د. لطيفة العبداللطيف، د. سميرة أمين، د. فاطمة منديلي، د. سلوى الخطيب.. د. عبدالكريم الأحول رحمه الله وزوجته د. فريدة عويس، د. عبدالله فيصل الشمري وزوجته د. سو انطلقنا من عمارة ستة حيث كانا يسكنان لما يزيد على ربع قرن ويفوح من شبابيك شقتهما الصغيرة على مدار الأعوام عبير زهر الزعفران، مررنا بعمارة خمسة جواري الأخير معهما،عرجنا على رياض الأطفال ونادي السكن الرياضي ثم توقفنا غير بعيد من المسجد الذي كان ينطلق منه صوت الشيخ ياسين، أكرم الله مثواه، مغسولا بماء زمزم وآية الذكر الحكيم حيث كنت التقيهما معا أحيانا في طريق الذهاب أو الإياب من صلاة التراويح في شهر رمضان.
حملتنا أقدامنا أو بالأحرى قادتنا كاميرا الذاكرة إلى مجمع السكن التجاري السوبر ماركت ومشغل ريفا لأم سليمان والمخبز ومكتب الطلاب. وفيما انهمر الحديث بيننا على إيقاع رائحة الخبز الشجية الشهية المتضوعة في الفضاء وبين الأضلع عن جمال الأقدار في تخطيط مفاجأة هذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان.. تساءل د. نظامي بطفولة: هل مياه الرياض الجوفية أو المحلاة مثل نهر النيل، من يتذوقها لايستطيع إلا أن يعود للرياض؟ إلا أنني بشقاوة أجبته أو ربما أعتى فمن يشرب ماء الرياض لايعود باستطاعته مغادرة الرياض وإن غادرها.
***
خبز العلم وملح البحث االسيسيولوجي
تحدثنا في تلك اللحظات الخاطفة عن مشتركات مشاغلنا المعرفية وتحدثنا عن مآلات مصائرنا الشخصية والأكاديمية والوطنية. الجميلة ناجية والأستاذ في ولاية نفادا بأمريكا حيث يقوم د. نظامي بالتدريس في إحدى الجامعات هناك ويواصل انشغالاته البحثية التي لاتنتهي، وأنا أواصل مارثون التدريس بشكل منتظم في جامعة الملك سعود وبشكل متقطع في جامعات أمريكية. تخطينا تلك المساحة التجارية من السكن وواصلنا السير عبر الممر الخلفي للسكن المواجه لمستشفى الملك خالد الجامعي كانت معظم عمائر ذلك الجزء من السكن خاصة بعد التوسعة السكنية الأخيرة التي بادر بها د.عبدالله العثمان إبان إدارته للجامعة قد خوت وخبا صخب السُكان الذي كان طيفا من شتى الجنسيات والألوان... لكننا كنا نسمع أصوات الأطفال جذلا تنبعث من الملاعب ومن حجرات القلوب الثلاث التي حملتها رياح الحب لتجمعها الصدفة في لحظة حنين على أرض الدرعية بجامعة الملك سعود بمدينة الرياض. تحدث د. نظامي بهدوئه المعتاد وثقته المفرطة في المستقبل في ذلك اليوم عن مشاريعه العلمية وعن جديده البحثي وعن آماله المعرفية العريضة بنفس الروح الشبابية التي عهدتها فيه منذ أول يوم عرفني عليه د. عبدالله فيصل الشمري رئيس قسم الدراسات الاجتماعية، ود. يكن إرتورك وكيلة القسم للبنات ود. منصور الحازمي طيب الله أوقاته/عميد مركز الدراسات الجامعية للبنات وقتها بمباني الراجحي لمركز دراسات البنات الجامعية بعليشة.
وكان ذلك مطلع الثمانينيات الميلادية.
في نهاية لقاء الصدفة في العقد الأخير من الألفية الثالثة الذي لم أعرف أنه لقاء نهائي بالأستاذ كنت مبهورة الأنفاس بقدرة القدر وطاقة الحنين على اختطاف لحظة إضافية ما بعد أخيرة لمسيرة د. محمد أسعد نظامي العشرينية في التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض واختياري لتقاسم رغيفها ولأكون شاهدة عليها لم يدرسني
ولكنه كان أستاذي.
يتبع في المقال القادم بإذن الله