حيدر زكي عبدالكريم
إن تعريف التاريخ بأبسط صوره هو «إرجاع الأحداث إلى أزمنتها» ويتكون الحدث بتفاعل الإنسان والمكان لأنهما مترابطان في تشكيل صورة ذلك الزمان، وأن الحاضر هو نتيجة الماضي.
تحتل اليمن الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية (طبيعياً) وهي اليوم أخطر منطقة عربية وأمّس المناطق حساسة بين الشرق والغرب وتأتي هذه الأهمية من خلال نظرة موجزة في مكانتها بشكل عام..
جاء في تقرير بعنوان صور من حياة اليمن ونقلاً عن مجلة القلم الجديد، عمّان، السنة الأولى، العدد الثالث، 1952، ص41 ما يأتي: «بلاد اليمن بلاد جبلية، تنقسم إلى ثلاثة أقسام طبيعية هي الساحل الضيق الذي قلما يزيد عرضه على عشرين ميلا، والجبال الممتدة على طول هذا الساحل والمعروف بسلسلة الشراة أو السراة، وأخيرًا الهضب الذي يهب في الاتجاه الشمالي الشرقي وربوع اليمن عامة، تمثل جميع أنواع المناخ، فمنها شديد البرودة في الشتاء مثل صنعاء وماهو شديد الحرارة مثل تهامة وما حولها وما هو معتدل مثل أب وتعزّ وما هو حولهما وفي هذا القسم من اليمن أنواع من الهضاب والجبال التي تضاهي جمالها جمال لبنان الطبيعي، تهطل الأمطار في فصل الصيف لتأثر البلاد بالرياح الموسمية ويكون نزول المطر عادة بعد الظهر، أما أراضي اليمن فهي بركانية خصِبة، ويعتبر مناخ اليمن من أحسّن أنواع المناخ الزراعي - وتعد الزراعة الأهم في الاقتصاد اليمني مثل البُن والجلود والزبيب والتبغ والسّمن والعسل والقات، والثروة الباطنية وحسب وصف الخبراء فيوجد في (ذمار) الفضة والنحاس والذهب و(عدن) الزئبق والبترول وحول (اب) الفحم الحجري وفي (صنعاء) الزمرد والياقوت وفي (صعدة) الحديد وفي (الجوّف) ملح الطعام وفي (شبوة) البترول» انتهى الاقتباس.
كما اشتهرت اليمن على مستوى شبه الجزيرة العربية بمنتوجات منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر ونقلاً عن (كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، ط1، 1954، ص17، لمؤلفه المؤرخ الكبير الدكتور صالح أحمد العلي): «ازدهرت هذه البلاد، وقد أدى إلى استقرار الناس ونشأ المدن، ومن أهم المنتوجات اليمانية العطور والبخور التي كانت لها أهمية كبرى عند الناس في التأريخ الماضي، حيث كانت تستعمل في المعابد والطقوس الدينية وللتحنيط، كما كانت تستخدم أحيانًا في الأطعمة، هذا إلى جانب أن العطور كانت تستخدمها النساء وبكثرة - وللاستدلال على أهميتها يذكر أن معبدًا لآمون في مصر استعمل في أوائل القرن الثاني عشر (ق.م) (2159) جرّة في سنة واحدة، وكما أن الكلدانيين كانوا يحرقون سنويًّا في معبد بعّل ببابل عشرة آلاف تالنت».
كذلك الجانب التجاري ووقوع اليمن على طريق الهند ساعد على جعلها مركزًا عامًا لتجارة الوسيط ولسيطرة بحاريها على ملاحة البحر العربي والبحر الأحمر ولخبرتهم بحركة الرياح فوق البحار المجاورة مما ساعد اليمانيين على احتكار الملاحة حتى القرن الثاني قبل الميلاد (200 ق.م) وأشهر دويلات معّين وقتبان وسبأ وحميّر وسكان اليمن جميعهم من القبائل العربية القديمة التي استوطنت هذه المنطقة. وأطلق عليها الرومان (العربية السعيدة) والعرب (العربية الخضراء) لكن عوامل عدم الاستقرار السياسي والكوارث الطبيعية ومنها «تصدع سّد مأرب عام 434 ق.م والغزوات التي أسهمت بضربة قاصمة - استمرت تأثيراتها لقرون حتى التاريخ الحديث وتحديداً ببداية الاستكشافات الجغرافية في القرن الثاني عشر ميلادي (1100) تم ملاحظة أهمية اليمن الجديد من الناحية التجارية من قبل المستكشف ( ماركو بولو) عندما مّر بمدينة عدن عام 1285م لتتوالى أهميتها بعد استيلاء القوات البريطانية على عدن في عام 1839 وتضاعفت تلك الأهمية بعد افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869م.
كانت بريطانيا تسعى لتثبيت قاعدتها في الجنوب اليمني (عدن) وما حولها بينما كان شمال اليمن ولاية عثمانية حتى قيام الحرب العالمية الأولى ومع انحسار الاحتلال العثماني (التركي) بدأت مرحلة جديدة من سيطرة الإمامية تحت قيادة الإمام يحيى وبداية تثبيت سلطاته الأولى للفترة 1918 -1925 والإمام يحيى هو «المتوكل يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين من الأئمة الزيود الذين حكموا اليمن ومدة حكمه من 1904 إلى 1948، واستطاع تأسيس نظام بسياسة داخلية وخارجية وأن يبسط نفوذه في المناطق الشمالية من اليمن».
حاولت الإدارة البريطانية إرغام الإمام يحيى على الاعتراف بسيادة انكلترا في جنوب اليمن مقابل استعادته إحدى المدن اليمنية وقدمت بريطانيا تحديدًا بين عامي 1925- 1935 شروطًا لاستقلال اليمن مقابل سحب الإمام فرقه العسكرية ذات الطابع القبلي من محميات عدن (المدن التي تحيط بعدن). وبمنتصف الثلاثينات من القرن الماضي اتسمت الحياة السياسية الداخلية والخارجية بالهدوء بعد توقيع اتفاقية السلام مع السلطات البريطانية وكذلك انتهت محاولات أنصار الإمام من القبائل الموالية له بالتعرض للمدن الحدودية مع المملكة العربية السعودية التي تمت باتفاق الطائف في أيار/ مايو 1934 بالتوقيع على اتفاقية الصداقة الإسلامية والأخوة العربية التي عُرفت في حينها. وطدّت بريطانيا وجودها في الجنوب وكذلك الإمام يحيى في الشمال وعقدت بريطانيا ما عُرف في حينها باتفاقيات الحمايات «الحماية على محميات الجنوب» واتفاقية المستشارين «الاستشارة» في إدارة البلاد. وفي تلك الأثناء شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين ميلاد الحركة الوطنية بمختلف أنحاء اليمن رافقها حدوث أزمة حادةٍ داخل البيت الحاكم وفي هذا الصدد ونقلاً عن كتاب تاريخ اليمن المعاصر لمجموعة مؤلفين، ط1، القاهرة، 1990، ص82 وما بعدها يمكن ملاحظة ما يأتي: «قرر قادة المعارضة اغتيال الإمام يحيى في شباط/ فبراير 1948 وقام القردعي على رأس مجموعته بقتل الإمام يحيى ورئيس وزرائه عبدالله العمري وحفيد الإمام وحارسه في منطقة حزيز غير البعيدة عن صنعاء... وجاءت حكومة برئاسة عبدالله الوزير ولكنها لم تضع في حسابتها مسألة الدعم الكامل لها عربياً ودولياً... وقد تم إنهاء الانقلاب بظهور الإمام أحمد وبمساعدة الفرق القبلية تحت قيادة الأمراء والقادة تم إلقاء القبض على الكثير من منظمي الانقلاب وأنصاره وزجهم في السجون وإعدام عبدالله الوزير واعتقال الكثيرين فيما بعد».
وباستيلاء الإمام أحمد على السلطة، أُعلنت المملكة المتوكلية اليمنية. يرى البعض: «كان حكم الإمام السابق -يحيى- قد وضع الأسس لدولة شبه منظمة من خلال تأسيس لسلطة مركزية وإدارية وإقامة علاقات دبلوماسية مع دول مهمة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وتطوير الاقتصاد اليمني واستكشاف الثروات».
ويقول رأي آخر وهو أقرب للصواب: «هو أن حكم الإمام كان استبدادياً متخلفاً ولم تكن هناك سلطة مستقرة وصراع القبائل مستمر في الشمال والجنوب، وظل الشعب يعاني من الجهل والمرض حتى أن لغة الاقتصاد إقطاعية أشبه بالرأسمالية الموالية للسلطة لكن مع هذا أسهم بنمو الحركة الوطنية للأحرار اليمنيين بشكل سريع من قبل طبقة الأحرار والمثقفين العسكريين».
أما بخصوص سياسة الإمام أحمد فإنها لا تختلف عن أبيه وكانت مشاكل الأسرة الحاكمة والعلاقة بين الأمراء أنفسهم خاصةٍ بعد مقتل شقيقيهِ ومعارضة اليمنيين في الداخل والخارج، أسهمت في انتفاضة عام 1955 التي احتجز فيها الإمام أحمد وأجبر على التنازل تمهيداً لمجيء وليّ عهده الإمام محمد البدر والذي نوعاً ما يختلف عن سياسة أبيه على حد وصف البعض.
ومن الجدير بالذكر أن الحركة الوطنية مستمرة في نهجها المعارض بالرغم من تغير ما يُعرف «بالأئمة الحاكمة» وعلى سبيل المثال لا الحصر- نظرة على بعض الأحزاب وطريقة تعاملها مع الوضع اليمني آنذاك ونقتبس هنا عن كراس للأحرار الدستوريين: بعنوان «كيف نفهم قضية اليمن لمحررة أحمد محمد نعمان، ط1،عدن، د.ت، ص42 « جاء فيه- «لقد كان الإمام قديساً يكادُ يعبد من دون الله ولكن الأحرار الدستوريين ينادون بأن يعود الحكم للشعب ويرفضون أن يتحكم في حياة الشعب فرد أو أسرة أو عصابة من أذناب الطغاة و.... أقول إن الأحرار الدستوريين بقيادة الزبيري ونعمان استطاعوا أن يرفعوا عن الإمام أحمد الرهبة والجبروت حين حملوه على أن يولي هارباً من تعّز، يطلب أن يؤمن له السبيل لينجو بنفسه إلى الخارج... وبعد أن أعلن الزبيري ونعمان على مسامع الدنيا من إذاعة صوت العرب (من القاهرة) مواقف الإمام كلها، وطافوا في المؤتمرات العربية في كل عواصم العرب رسمية وشعبية كاشفوا حقيقة المأساة التي تعيشها اليمن حتى لا يخدع أحد بالسياسة الإمامية». انتهى الاقتباس.
تسارعت الأحداث لتتوج بقيام ثورة 16-9-1962 بقيادة الضباط الأحرار بعد استيلائهم على القصر والإذاعة في صنعاء وتم إعلان الجمهورية العربية اليمنية وفرّ الإمام محمد البدر إلى الجبال مستعيناً بالقبائل الموالية له. ولحَق ما تبق من الجنوب اليمني إن صح التعبير بحركة التحرر خاصة بعد رفضه لمشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي وعلى هذا الأساس تشكلت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني وبدأت تحقق نتائج على أرض الواقع بمساعدة عربية ودولية مما دفع بريطانيا إلى عقد مفاوضات مع القوى الوطنية في الجنوب اليمني ونقل باقي المحميات إلى السلطات اليمنية الجنوبية عام 1967.
لقد كانت مفاوضات جنيف عامل مهم لبداية مرحلة سياسية جديدة لليمنيين خلال العقديين القادمين من التاريخ أعلاه.. إلى أن جاء آيار - مايو 1990 اتفاق الوحدة وإعلان الجمهورية اليمنية وعاصمتها صنعاء.