د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ينطفئُ الأكثرون فور مغادرتهم المشهد العام برحيلٍ من الدنيا أو من مواقعهم فيها وينتهون وذكرُهم؛ فلا فرق بين من هم فوق التراب ومن هم تحته إذ لا ذكرَ يستعيدُهم ولا شكرَ يستعيدونه، ومن لم يرْمُسْه قبرٌ سيُعوزُه قدر، ومن توارت قامتُه لن يجد قيمتَه، وربما كان كبيرًا فصار كسيرًا، أو عظيمًا فأصبح عِظامًا، ونعجب لهم أو منهم؛ فلماذا لم يدركوا بدهيةً لا تحتاج إلى عين مبصرٍ أو حكمة بصير؟
** ليس من سببٍ سوى تركيبةِ ذاتٍ غير مطمئنةٍ ولو بدت زاهيةً مزهوة، ووعينا من التفت يبحث عن الناس بعدما فاض وقتُه وانفضَّ سامرُه فما وجد من يعيدُ إليه أحاسيس الوهج، وأيقنا أنها جنايةُ عمرٍ لم يستطع التواؤم مع معطيات ذاته ومتطلبات غيره، والمتكأُ الإنسانيُّ هنا ليس مهمًا فطبيعة الأنفس متفاوتة، والأنوية قد تحكم فتتحكم، غير أن المنطلق الثقافيَّ صادٌ لها سواءٌ أتلبست بالأنا أم بالأنا العليا أم بال «هو» أو ما يسمى: الأنا السفلى وفق نظرية «فرويد» الذائعة.
** وفي مقابل الفكر المسيحي الذي يربط المرء بالخطيئة فيُخضعه لظرفها المُذلّ فإن الفكر الإسلامي يؤكد على منطق ضعفه مذكرًا إياه بأصل تكوينه وفجائية منتهاه، لا بما يُهينه بل بما يكرمه ويحدد مسافات حراكه وفق ما يعتقده بنفسه ويزهده في نفيسه ويوثق مبدأَ تساكنِه مع سواه وتعارفهم معه وتوافقهم في الإمكانات دون النظر إلى المكانة التي يعيدها النصُّ الإلهي إلى عامل التمايز الأوحد وهو التقوى.
** الموضوع هنا يناقش الانطفاء مقابل الاصطفاء حيث يصطفُّ المغادرون نحو إحدى الضفتين المتعارضتين؛ فنستعيد بهم غيابًا كليًا أو جزئيًا مهما تقادم الزمن، ونجهل حضورًا مماثلاً ولو لم يمض من الزمن يومٌ أو بعضُ يوم؛ ثم نقرأ معاملاً مختلفًا أو نصوغ معادلةً موازية مفرداتها الإيثار لا الأثرة والنُّبل لا النَّبل والتعاضد لا التحاسد، أما لماذا الانطفاء ولم الاصطفاء؛ فالأخلاقُ عاملٌ حاسمٌ في تحديد الدربين المفترقين، وهي -لمن لا يلَذُّ له التنظير- القيمُ التأصيليةُ والتفصيليةُ للفرد التي تتجذرُ فيها تربته وتسمقُ تربيته.
** لم يشأ «الرافعي» كتابة اسمه صريحًا حين غضب من «العقاد» فسفَّده بكتابه الذائع الذي اختفى لإسفافِ لغته وسَقَط لغوه، وأسف كثير من كتبتنا على ما أضاعوه من وقتٍ وما خسروه من أخلاق خلال صراعاتهم العبثية في مرحلتي الصحوة والحداثة وما تلاهما، وسوف يلحق بهم من شخصنوا قضاياهم المعرفية والمجتمعية والقومية فاخترموا المروءة والخُلق الجميل في كتاباتهم وحواراتهم، وعلَّمنا سيدُنا العظيم محمدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يُرمز إلى خطأ الفرد الذي يتيقنُه بإسناده إلى الجمع المجهول: «ما بالُ أقوامٍ..»؛ فما بال قومنا يُغلظون حين يَسِمون، ويَصِفون إذ يدَّعون ثم «يحسبون أنهم يحسنون صنعا»؟!
** البقاء للنقاء.