د. حمزة السالم
على ضحالة خبرتي ومعرفتي بالسياسة، لا أعلم إلا نماذج فاشلة من اتخاذ سياسة من أجل السياسة. وشواهدي، منها الوحدة المصرية السورية في عهد القومية الناصرية، ومنها مجلس التعاون العربي، الذي جمع العراق والأردن واليمن ومصر، ثم انهار سريعاً باحتلال العراق للكويت، ومنها اتحادات إفريقيا وأمريكا الجنوبية، فهذه كلها شواهد على أسلوب استخدام السياسة من أجل السياسة، والتي مردها ولا محالة للفشل.
فالنماذج الناجحة تخرج من استخدام السياسة من أجل الاقتصاد أو استخدام الاقتصاد من أجل السياسة. ويكفي شاهداً لذلك، أن الأقطاب السياسية ما هي إلا نظريات اقتصادية. فالاقتصاد هو ما تتصارع عليه الأيدولوجيات كالرأسمالية والاشتراكية.
ومن شواهد استخدام الاقتصاد من أجل السياسة: الوحدة النقدية الأوروبية. فالهدف الإستراتيجي الأسمى لليورو، هو توحيد قلوب سكان أوروبا المشتتة التي أهلكتها النزاعات الدموية الرهيبة لآلاف السنين. فأوروبا قارة تهددها المذاهب والفرق الدينية النصرانية المتنازعة. واختلاف المذاهب في الدين الواحد، تجد أهلها أشد كراهية لبعضهم البعض، وتحس أن جراحهم أعمق حقداً من أن تبرأ وتشفى بتقادم الزمان. فهي قد تكمن حيناً من الزمن، حتى يأتي من يحيها من جديد. كما أن أوروبا تحمل أمجاداً تاريخية، قام بعضها على دك وهدم بعض، فهي أمجاد متنازعة متضادة، مثلها مثل مذاهبهم الدينية، تنتظر داعي الفتنة ليحييها من جديد. كما أن لغات أوروبا متفرقة متنوعة، تحمل كل لغة منها مفاخر قومية وأمجاد. عرقية، قد تكون شرارة إشعال نار النعرات العصبية الداعية إلى التفرق والاقتتال. فمن أجل ذلك نادى تشرشل من منبر جامعة زيورخ في سويسرا «بالولايات المتحدة الأوربية»، وأوروبا ما تزال تنزف دماً بعد الحرب العالمية الثانية من آثار حروبها بين بعضها بعضاً، وترزح ذلاً وهواناً تحت الاحتلال الأمريكي والدب الروسي. وما كان نداء تشرشل ذاك، إلا نداءً سياسياً من أجل السياسة، فما كان له أن يحقق نجاحاً، لولا استخدام الاقتصاد في تحقيقه، فكانت الوحدة الاقتصادية الأوروبية ثم النقدية المتمثلة باليورو، لمحاولة الوصول لهدف سياسي. فالوحدة النقدية، من أشد عوامل تلاحم قلوب الشعوب، (ولا يعني هذا أنها ناجعة اقتصادياً)، فالعملة في هذا الزمن الحديث المعاصر، كالعلم الوطني للوطن الواحد، وكراية الحرب التي ينخرط تحتها ويذود عنها مقاتلو الجيش من أبناء الوطن الواحد، فلم آت بها هنا إلا للتمثيل، فالوحدة الأوروبية إذن مثال على استخدام السياسيين للاقتصاد من أجل السياسة.
وأما استخدام السياسة من أجل الاقتصاد، فأبرز مثال عليه هو منظمة التجارة العالمية. فقد استخدمت الدول العظمى وخاصة أمريكا، السياسة من أجل تحسين الاقتصاد، ورفع الإنتاجية والاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، عن طريق استغلال المزايا التنافسية المتوزعة في أنحاء العالم، فالجميع رابح.
فلا اقتصاد بلا سياسة ولا سياسة بلا اقتصاد، فهما كالمرأة والرجل بتزاوجهما يستمر العالم الإنساني، وبتزاوج الاقتصاد والسياسة في السياسات تدوم الدول.