د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في عصور مضت في مصر، وفي النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، أي قبل أكثر من خمسة آلاف عام، أخذت تتبلور صبغة معينة لإنشاء دولة حديثة تحل محل ما كان سائداً من تجمعات بسيطة منفردة، تحكمها الأعراف التي كانت سائدة، يجمعها نمط معين من التنسيق أو التواصل، ولكن سرعان ما تبدد ذلك في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، بعد أن أخذ نشأ دولة يبدو للعيان، ولم يحتج لأن تكون الدولة سوى مائتي عام تقريباً لتتبلور.
لا شك أن إنشاء دولة غنية كانت تتطلب بعض الكتبة لتسيير أمور البيروقراطية المصاحبة، وهذا ما تم إيجاده، وكانوا يحرصون على توريث وظائفهم إلى أبنائهم وذويهم، كما حرصوا على تلقين أبنائهم مهاراتهم، وخبراتهم الفنية، غير أن فوارق الذكاء والقدرات بين الآباء والأبناء قد لا تساعد على مثل ذلك التوريث، لهذا فقد أدت الحاجة المتزايدة للكتاب إلى البحث عن حلول عملية تسمح للأنسب لتولي مهن الكتابة التي أخذت في التزايد، ولهذا فقد تم إيجاد مدارس رسمية تقوم بمهمة تدريس عدد أكبر من المهن التي تتطلبها الإدارة الحديثة الناشئة، وقد تطورت حتى أصبح هناك شروط للطالب الذي يمكن قبوله في مثل هذه المدارس، ومن ضمن تلك الشروط أن يكون الطالب فطناً، أنيقاً في ملبسه، ونظيفاً في جسده، وأن يكون مجهزاً بكتبه، ولا بد أن تكون لديه مهارات الحسابات، وأن يتمها في صمت تام، كما أن عليه إتقان القراءة، وأن يكون حسن الحظ، كما أن عليه أن يحاكي معلميه، ويبتكر ما قد يراه مفيداً ليعرضه عليهم، ولإتمام هذه المهمة يقوم الكتاب السابقون والذين أصبحوا معلمين بوضع النصوص المكتوبة نثراً، وتطور الحال مع تطور الحاجة، فأصبح الطالب ملزماً بمعرفة ضبط السجلات والحاسبات، وإرسال الرسائل بعد صياغتها بأسلوب أولي جيد، وأن يستوعب الحكمة الموروثة من الأجداد، وقوائم الملوك الأوائل «الفراعنة»، والحوليات واليوميات، والأساطير والتضاريس الجغرافية، ونصوص شعائر العبادات التي كانت سائدة، وكتيبات دليل المسافر التي تكتب على ورق البردى، وعليه أن يتعلم السحر، والشعر، لا سيما أشعار الحب والطب، وتوقعات المستقبل عبر تفسير الأحلام.
وقد تطورت الشروط الواجب توفرها في الطالب حتى شملت الأخلاق والسلوكيات وحسن التعامل.
الحقيقة أن الحكمة نتيجة تراكم تجارب البشر منذ عهد سحيق، وربما تلاقح الثقافات لدى المجاميع البشرية، عندما تتاح فرصة للتقارب، كما كان لدى الكنعانيين بأعراقهم المختلفة العرب، والعبرانيين، والفينيقيين، والحيثيين، وغيرهم، وتلاقح ثقافاتهم مع مصر السفلي والعليا، وتلاحم ثقافتهم مع الكوشيين في السودان.
من الحكمة أن تستنتج أن الحاجة هي التي تؤدي في الغالب إلى الابتكار والإبداع، طالما كانت الظروف مهيئة لذلك، وربما تكون نقطة انطلاقة واحدة تفتح آفاقًا كثيرة في الابتكارات متلاحقة، كما هي الحال في اكتشاف الكهرباء، وتحويل الطاقة من ساكنة إلى متحركة، وتتابع المخترعات المختلفة.
التعليم والسلوك وعلى رأسه الانضباط هو أحد الأسس لبناء بيئة مناسبة للتعليم، والاندفاع نحو مستقبل أفضل، ولا شك أن الجامعات والأبحاث تلعب دورًا كبيرًا في هذا المضمار.
اليوم لم تعد الجامعات ومراكز الأبحاث هي الوحيدة الدافعة لعجلة الابتكار، وإنما الحاجة ومن ثم توفر التفكير السليم والإصرار على الإنجاز، وهو ما تراه في اليوم والشواهد كثيرة، كما فعل بل جيتس، أو غيره من أصحاب التطبيقات الذين استطاعوا تحويل حاجة المجتمع إلى فكرة قابلة للتطبيق، والسعي في ذلك بكل جد مهما واجه صاحبها من عوائق في مشواره الطويل.
لا نعلم ماذا سيحدث غداً لكننا متأكدون أن عدداً غير قليل يتلمس حاجات المجتمعات، ويفكر في تطبيق يلبي تلك الحاجة، وربما يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فيأتي بفكرة جديدة تلبي الرغبات البشرية المتزايدة.
فكرت ملياً في شيء ما زال الإنسان في حاجة إليه، فوجدت السعادة هي ما يحتاجها بني البشر، لكن ما من تطبيق استطاع تحقيقها حتى الآن، وربما يلهم الله إنساناً من بني البشر فيبتكر ابتكاراً يسعدها، أو على أقل تقدير يقلل من نوائب الدهر التي لا تفتأ أن تفعل فعلها بين فترة وأخرى.