محمد آل الشيخ
سمعت شريطاً في اليوتيوب لأحد طلبة العلم، الذي يقولون إنه مدرس في جامعة الإمام، أورد فيه جازماً، ومسفهاً بمن يختلف معه، أن قتل المسلم للكافر يستوجب الدية وليس القتل، عملاً بحديث (لا يقتل مسلم بكافر). والاستدلال بهذا الحديث استدلال ينطوي على درجة كبيرة من التدليس، ما جعلني أعتقد أن هذا الواعظ تعمده وأغفل التطرق للتفصيل فيه.
أولاً أن هذه قضية مختلف عليها بين المذاهب الفقهية ولم يتطرق المذكور لهذا الخلاف، وساقها وكأنها مسألة تحظى بالإجماع، فالأحناف -مثلاً- يرون أن المسلم إذا قتل كافراً غير محارب فالواجب المتعين أن يقاد به، كما أن المالكية أقروا أيضاً القتل إذا قتل مسلم كافراً غيلة، ولا يقول بما قاله طالب العالم هذا إلا الحنابلة والشافعية؛ كما اتفق الأئمة الأربعة جميعهم على أن ولي الأمر صاحب البيعة إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة في قتل هذا المجرم، فإن من حقه الذي لا يشاركه فيه أحد قتله تعزيراً، وهذا ما هو المعمول به في المملكة.
ويبدو أن طويلب العلم هذا صحوي بامتياز، فمقولته المجتزأة وغير المفصلة أراد بها دعم الحركات الإرهابية، ومناصرتهم.
النقطة الثانية التي أرى أنها في غاية الأهمية ونحن نتحدث عن مثل هذه المواضيع مؤداها أن الاستدلال ببعض المرويات عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كانت صحيحة السند عند المحدثين القدامى، قد لا تكون صالحة للاستدلال في زمن يختلف عن زمن السلف.
اليوم تغيّر تغيّرا جوهرياً عن الأمس، لاختلاف طبيعة الناس وتعايش أصحاب الملل والنحل مع بعضهم البعض، هذا التغير يستدعي شرعاً وعقلاً تغيراً مماثلاً في معالجة المسائل الفقهية، فالأحكام -كما يقول علماء الأصول- (تدور مع عللها وجوباً وعدماً)، ومثل هذه الأحكام التي نتحدث عنها هنا مقصدها وعلتها إقامة العدل، وإشاعة الأمن واستتباب الاستقرار والاطمئنان في الأوطان، حتى أن الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- في كتابه (المدخل الفقهي العام) أجاز لولي الأمر صاحب البيعة أن يختار الرأي المرجوح أو الضعيف على الرأي الراجح أو القوي متى ما ما رأى في ذلك مصلحة راجحة؛ ولست في حاجة للقول: إن (المساواة) بين البشر في الأحكام القضائية أصبح اليوم مطلباً يقتضيه التعايش بين أصحاب الديانات في عالمنا المكتظ بالعقائد والمذاهب المختلفة، بشكل يمنع (التمييز) بين دم المسلم ودم غير المسلم.
وهنا أود أن أنتهز هذه المناسبة لأشير إلى أن صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان تقتضي بشكل موضوعي أن تتغير الأحكام مواكبة لهذا التغير، كما فعل الإمام الشافعي -رحمه الله- عندما انتقل من العراق إلى مصر، حتى وإن استدعى ذلك تعليق بعض الأحكام التي كان السلف (يُجمعون) عليها، لنواكب هذا المبدأ.
ولنا في الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أسوة حسنة، عندما علق (حد قطع يد السارق) حينما ضربت المجاعة أطنابها في زمانه، في العام الذي يسمونه المؤرخون (عام الرمادة)؛ وهذا يعني أن تغير الظروف يقتضي تغير الأحكام.
أضف إلى ذلك أن الرق، واستحلال ما ملكت اليمين، كان أمراً مشروعاً في الماضي، بينما هو الآن جريمة حرب مكتملة الأركان، تشمئز منها النفوس وتُعاقب عليها الأمم جمعاء، والأمر أيضاً ينطبق على أي ممارسة يعدها العالم اليوم ضرباً من ضروب (العنصرية) أو التمييز حسب المعتقد أو اللون أو العرق.
فمن ضروريات صلاحية شريعة الإسلام لكل زمان ومكان أن (تتماهى) مع متطلبات التعايش مع العصر ومراعاة ما هو مقبول فيه وما هم مرفوض، والتقيد بقوانينه.
ثم لو أنك اليوم نظرت إلى ممارسات (داعش) التي يقول جميع المسلمين اليوم براءتهم منها، لوجدت أن كل ما تحكم به محاكمهم، وما يمارسونه هو ببساطة (استيراد) لأحكام زمن مضى وانقضى وتلاشى، وتطبيقها على ما يجرونه من أحكام في دولتهم التي اتفق العالم على سحقها واجتثاث جذورها؛ الأمر الذي يسوغ لنا القول إن كل من لا يُفرق بين اليوم وطبيعة الحياة فيه عن الأمس وطبيعة الحياة فيه، ولا يرى داعياً يدعونا لتغيير أحكام الشريعة لتلائم مقتضيات اليوم، فهو شاء أم أبى داعشياً صرفاً، يجب أن يعامل مثلما يعامل المنتمين لتلك الفرقة الضالة. إلى اللقاء