د. عبدالحق عزوزي
لا غرو أن الإصلاح الجامعي الذي نسعى إليه في الوطن العربي، هو في حاجة إلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية عقلانية التنوير، والعقلانية الرشيدة والعقلانية النقدية، فالأزمة شاملة تتعدى مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، وزوايا المنهجية والابستمولوجيا والإيديولوجيا، إنها عطالة التعليم العربي الذي لا ينفع معه طبيب الذات الفردية أو طبيب الذات الجماعية، وإنما طبيب كلي يصف دواء شاملا.
ولا يمكن أن يختلف اثنان إذا قلنا إنه من بين أولويات العالم العربي والإسلامي اليوم هو إصلاح منظومة التربية والتعليم وإحكام استراتيجيات اقتصادية واجتماعية لتنمية المجتمعات، فنحن في حاجة إلى تطوير التعليم لأن نهضة الأمم تكون بالتربية والتعليم وبهما تنمو المجتمعات وتزدهر.. ولهذا كانت توصياتنا في جميع المؤتمرات الدولية التي نظمتها أو شاركت فيها تعكس الحرص على تقديم أطروحات ورؤى غير تقليدية لواقع التعليم في الوطن العربي من خلال طرح تحليل موضوعي قائم على دراسات وإحصاءات، مقارنة مع مختلف دول العالم المتقدم، وذلك للوصول إلى تقديم حلول قابلة للتطبيق تسهم في إخراج التعليم في الوطن العربي من أزمته من خلال التعامل مع مكونات العملية التعليمية المختلفة، والحرص على تطويرها، وصولاً إلى الغاية المنشودة في جعل التعليم العالي والبحث العلمي قوة دافعة لتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة العربية.
فهناك مثلا ضرورة تطوير التعليم النظامي، وإشراك القطاع الخاص بفعالية في هذا الإطار، مع الاهتمام بالتعليم العالي وتوجيه طاقاته نحو البحث العلمي المتصل باحتياجات المجتمعات العربية، مع تأكيد الاستثمار في الموارد البشرية للأجيال في الوطن العربي.
كما يجب أن تكون خطة تطوير التعليم في أي دولة عربية عملية مستمرة ووفق رؤية استراتيجية متكاملة وراسخة، مع التشديد على أن مسؤولية التعليم لا تقع على عاتق الحكومات وحدها، وإنما يشترك فيها القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني.
ويجب على المؤسسات التعليمية في مختلف المراحل أن تتكيف ومتطلبات العصر الرقمي والتقني من أجل تفعيل أفضل سبل التواصل بين مكونات العملية التعليمية، وتغيير منظومة التعليم من أسلوب الحفظ والتلقين إلى الانتقال السريع نحو تنمية التفكير الإبداعي القائم على الاستنباط والتحليل والابتكار وتشجيع مبادرات بناء المدارس الذكية.
هذا ولا يجب إهمال دور الكفاءات العلمية والمراكز البحثية ويجب حث صناع القرار على الاستفادة من رؤيتها في اتخاذ القرارات التنموية وتفعيل المخرجات البحثية وربطها بخطط التنمية المستدامة، والعمل على اجتذاب الكفاءات الوطنية المهاجرة.
وفي هذا الصدد وقبل تعيينه بأيام وزيرا لخارجية الاتحاد الأوروبي خَلَفاً لفيديريكا موغيريني، زارنا وزير الخارجية الإسباني السيد جوسيب بوريل إلى الجامعة الأورومتوسطية بفاس، حيث أعطى كلمة فكرية جامعية رزينة ومؤثرة في احتفالية تخرج الدفعة الأولى من طلبة الجامعة في تخصصات عدة.
في كلمته في احتفالية الجامعة الأورومتوسطية التي ألقاها باللغة الفرنسية تحدث عن مسيرته الطلابية كتقني ومهندس دولة تمكن من الدراسة في أعرق الجامعات الإسبانية وكيف يمكن للطالب أن يصل عبر سنوات من الجد والاجتهاد إلى ما يمكن أن يحقق رخاء الوطن والمنطقة؛ أعطى توجيهات ونصائح لمن سيحمل لواء تسيير المؤسسات والشركات والشأن العام، ورأيته سواء في تدخله أو عندما رافقناه من المطار إلى الجامعة أنه يتكئ على جدار فكري وأيديولوجي عقلاني في رؤيته وتعاطيه مع الأحداث السياسية في العالم؛ ووجدته محبا للبيت المجتمعي المشترك وللإرث الحضاري والتاريخي والثقافي واللغوي الغني الذي يجمع بين شعوب المنطقة؛ وألح الوزير كما جاء في باقي التدخلات على النظر إلى المستقبل وعلى الإبداع المنشئ للتنمية في البلدان؛ فلو اكتفى الإنسان بعملية إضاءة الشمعة فقط دون النظر إلى البديل لما اهتدى إلى المصابيح الكهربائية ودخول الكهرباء في جميع مناحي الحياة؛ ولذلك أقول ونحن قد خصصنا العديد من مقالاتنا الأخيرة في هاته الجريدة الغراء إلى موضوع الجامعة والبحث العلمي لأهمية ذلك في أوطاننا، إن مواضيع من قبيل «الموجة الثالثة» و»المجتمع ما بعد الصناعي» و»مجتمع تكنولوجيا المعلومات» و»مجتمع التواصل» و»مجتمع اقتصاد المعرفة» و»القرية الكونية» و»رأسمالية الثقافة» و»مجتمع الشبكة» و»الطفرة التكنومعلوماتية» توحي إلى الحالة التي وصلت إليها النظرة المستقبلية الصائبة للمجتمعات؛ وإذا لم تستطع الدول ابتكار منتوجات المستقبل المولدة لمهن الغد، وتحضير وإعداد الأجيال القادمة من أجل شغل وظائف المستقبل، فإنها ستغدو في المستقبل مجرد بلدان للسياحة.