عبدالله بن محمد بن سليمان
وعند بلوغ بعض أبناء الملك عبد العزيز مرحلة الزواج أمر، رحمه الله، المشرف على البناء والتعمير (الأستاد) حمد بن قباع ببناء خمسة قصور في حي الفوطة جنوب قصر المربع لأبنائه الأمراء مشعل، ومساعد، وعبد المحسن، وسلطان، وفهد بن سعود بن عبد العزيز واكتمل بناؤها عام 1361هـ، وقد هدمت هذه القصور أوائل الثمانينات الهجرية وأقيم مكانها عمارات حديثة على شارع الخزان من ضمنها مستوصف الفوطة، وفي عام 1365هـ اكتمل بناء خمسة قصور أخرى جنوب غرب قصر المربع، قام ببنائها حمد بن قباع بأمر الملك عبد العزيز لأبنائه الأمراء بندر، وعبد الرحمن، ومشاري، ومتعب، وفهد بن محمد بن عبد العزيز، وقد بقيت هذه القصور الخمسة، التي تمثل ذروة الطراز المعماري بالرياض، إلى عهد قريب ثم هدم اثنان منها وأقيم مكانهما عمائر حديثة، ثم هدم اثنان آخران جزئياً من الأمام وبقيتها لازالت قائمة، والقصر الأخير الباقـي، قصر الأمير فهد بن محمد بن عبد العزيز، قد استخدم كأول مقر لوزارة المواصلات في منتصف السبعينات الهجرية بعد انتقال الوزارات من الحجاز إلى الرياض. وهذا القصر الباقي من هذه القصور آلت ملكيته إلى أشخاص آخرين واستخدم فترة من الفترات في الثمانينات والتسعينات الهجرية قصراً للأفراح ثم تم إخلاؤه وبقي مهجوراً يصارع بوائق الزمن والرياح، وبدأ يتصدع وهو قاب قوسين أو أدنى من الانهيار إذا لم تتم المحافظة عليه وترميمه وإعادة الحياة إليه باستخدام مناسب يليق به.
وتعتبر هذه القصور الخمسة وحدات عمرانية ضخمة كل قصر يشتمل على ثلاث وحدات كل وحدة قصر بذاته، القصر الأمامي للرجال والضيوف والقصر الأوسط للعائلة، والقصر الأخير للخدمات والمطابخ ومستودعات وخلافه.
كما يحتوي حي المربع على قصرين آخرين لا تزال واجهاتهما المميزة وبواباتهما المقوسة باقيتان تنتظران الترميم وإعادة البناء وهذين القصرين يقعان شرق حديقة الفوطة، وتعتبر من القصور الملكية الباقية في حي المربع.
ويظهر أنه سبق أن تم نزع ملكيتهما ويتوقع هدمهما قريباً من قبل أمانة مدينة الرياض إذا لم يتم الإسراع في إنقاذهما.
وفي سنة 1365هـ قام الملك عبد العزيز بإنشاء قصر استقبال بالمربع يقع بين قصره السكني الشمالي وقصر الديوان - قصر المربع - وقد بني بالخرسانة المسلحة ويعتبر ثاني قصر مسلح أقيم في الرياض بعد قصر الحمراء المجاور، وكان يسمى ذلك القصر قصر آل طلال، وقد قام ببنائه المعلم محمد بن لادن، وقد أزيل هذا القصر ضمن مشروع تطوير منطقة المربع للاحتفال بالسنة المئوية 1419هـ.
وفي سنة 1367هـ تم بناء المدرسة التذكارية بمناسبة عودة الملك عبد العزيز من زيارته لمصر وبنيت تلك المدرسة بالطراز الحساوي المميز والمختلف عن طراز البناء المعروف في الرياض، وكانت تقع شرق تقاطع شارع البطحاء مع شارع القري القديم (المدينة المنورة)، وفي بداية الثمانينات هدم ذلك المبنى وأقيم مبنىً آخر مسلحاً بدلاً عنه.
وفي تلك الفترة من الستينات الهجرية، قام مستشار الملك عبد العزيز خالد أبو الوليد القرقني (القرقري) ببناء قصر مشابه لقصر الحمراء بالمربع، عرف بقصر القرقري جنوب شارع عسير وخلف مقر دار الإفتاء الحالي من الغرب، وكان المبنى الوحيد في تلك المنطقة وقريب من بساتين صياح، وقد أقام فيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله، فترة من الزمن في الثمانينات الهجرية عندما كان أميراً لمنطقة الرياض.
وتم هدم ذلك القصر منذ سنوات قريبة ماضية وفقد واختفت معالمه، وكان يعتبر من أوائل القصور الخرسانية الحديثة في الرياض.
وقد تزامن مع إنشاء تلك القصور والمنشآت في عهد الملك عبد العزيز بداية التوسع العمراني للرياض بقطع بساتين النخيل المحيطة بسور الرياض القديم وإنشاء الأحياء الطينية من الجهات الجنوبية والغربية والشمالية وتشكلت على أثرها الرياض التاريخية القديمة.
وكان أول بستان تم تقطيعه هو بستان القري التابع للإمام عبد الرحمن الواقع جنوب شرق السور، وقد خصصه، رحمه الله، للفقراء من المواطنين بدين طويل الأجل بما يعرف «بالصبره»، ثم تم تقطيع بستان العطنة المجاور وأقام فيه الملك عبد العزيز مجمع اللاسلكي (البرقية) وكراج السيارات الملكية الذي تحدثنا عنه آنفاً.
وفي نفس الفترة تم تقطيع بستان الوسيطى المجاور جنوب السور، ثم تبعه تقطيع البساتين من جميع جوانب السور الجنوبية والغربية والشمالية، وتكونت مساهمات عقارية عرفت آنذاك باسم «الشراكة» من قبل الرعيل الأول من تجار الرياض وأعيانها وبدأوا يشترون بساتين النخيل وتقطيعها ثم بيع أراضيها بوحدة القياس حينذاك «الذراع» وتشكلت على مدى أربعة أو خمسة عقود من الزمن أحياء الرياض القديمة وحلت محل تلك البساتين واكتسب معظمها نفس أسماء تلك البساتين.
وهذه الأحياء على سبيل المثال لا الحصر.
معكال وجبرة وسلام والحبونية وسكيرينية والدوبية والبطيحاء والعود ودخنة وحلة آل حمود وحلة آل حماد وحلة آل ريس والمليحة ومصدة من الجنوب والجنوب الغربي، والسبالة، والقرينين والحساني والعسيلة والشميسي والمشيقيق والعويمرية وأم سليم من الغرب، والظهيرة والحنبلي والغراوية وحوطة خالد والعطايف والعجلية والفوطة والمربع من الشمال.
كما نشأت حلة القصمان للوافدين من خارج الرياض بالقرب من قلعة المرقب شمال شرق وادي البطحاء.
وبدأت سواعد معلمو البناء (الأستاديه) من أبناء الوطن المهرة والمحترفون بالبناء والتفنن في إبراز مواهبهم المعمارية وبمواد محلية أقيمت القصور العالية بواجهاتها الأنيقة المزخرفة بالجص والشرف والحقاف والحداير المثلثة والمشاش المقوس والنوافذ الخشبية، وبعضها زخرفت واجهاتها بالحجر المنحوت وصبغت أبوابها بالألوان الزاهية شملت شعار السيفين والنخلة وتاريخ بنائها، وأتقنت تلك الأيادي إبراز معالم وملامح الطراز المعماري النجدي والهوية العمرانية الأصيلة للرياض.
ومنذ أواخر السبعينات الهجرية بدأت تظهر أحياء جديدة ذات طابع مختلف عن أحياء الرياض القديمة، وبدأت تظهر عمارة الفلة الخرسانية وغياب (بطن الحوي) بإضاءته اللطيفة وهوائه النقي، وحل محله البلكونة والارتداد التي أصبحت وعاءاً للشمس والغبار، وبدأ سكان الأحياء القديمة التحول إلى تلك الأحياء الحديثة، وزادت الوتيرة مع بداية التسعينات الهجرية وغدت أحياء الرياض التي ذكرناها آنفاً تخلو من سكانها الأصليين، وبدأت شمسها تغيب وأصبحت بيوتها وقصورها خالية ومهجورة، وبدت أحياءاً موحشة كئيبة تئن لفراق أصحابها وهجرانهم، وتحولت إلى ملجاً ومقراً للعمالة الوافدة ومستودعات ومخازن للمحلات التجارية والأسواق المجاورة لها، وتغيرت واجهاتها وتحورت مكوناتها وأصابها ما أصابها من التلف والتشويه.
وبعض بيوت وقصور تلك الأحياء بقي مهجوراً أدى وضعها إلى انهيارها ولم يلتفت إلى العناية بها، خصوصاً القصور والمباني المميزة، لغياب الوعي بأهمية التراث العمراني سواءً من أنظمة البناء للمخططات الحديثة التي فرطت بأنظمتها فيما يخص التراث والمباني التراثية ولم تفرض نظاماً صارماً للمحافظة على تلك المباني، أو من الإدارة البلدية التي لم يكن من أولوياتها المحافظة على مبانٍ قديمة تعتبرها كتل انتهت صلاحيتها ولا يحسن التعامل معها إلا بعجلات البلدوزر، فأصبح تراث الرياض العمراني في سنوات الطفرة ضحية لتفريط أنظمة بناء لم تكن جديرة بحمايته، وبانشغال الإدارة البلدية بأمور ترى أنها أهم والمباني التراثية آخر أولوياتها.
وقد اشتملت تلك الأحياء على القصور والمباني ذكرنا بعضاً منها سلفاً، ولا يزال بعضها يحتوي على عدد قليل آخر.
كما فقدت الرياض منشآت مميزة ولها تاريخ عريق يعود إلى قرون من الزمان مثل حامي دهام بن دواس الضخم المحيط بالرياض وأبراجه الاسطوانية التي كانت إلى وقت قريب شاخصة على حواف الطريق الدائري الجنوبي بحي منفوحة، ولم تجدي مطالبة الغيورين على تراث الرياض العمراني لوكالة الآثار بوزارة المعارف سابقاً لحمايتها ولم تلق تلك المطالبات أذناً صاغية، مع العلم أن مكاتب تلك الوكالة تقع بين ظهراني هذه المدينة، وبالقرب من تلك التحف المعمارية التاريخية والتراثية، ولم يحافظ عليها واندثر هذا الحامي وأبراجه المتعددة إلى جانب العديد من القصور والمنشآت الأخرى.
ومن حسن الطالع أن قامت هيئة تطوير الرياض بتطوير مجمع قصور المربع الذي عانى هو أيضا من سنوات وتهدمت قصوره عدا قصر المربع - قصر الديوان - وكاد يختفي لولا تدارك اللجنة العليا للاحتفال بمرور مئة عام على تأسيس المملكة برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله ورعاه، عندما كان أميراً لمنطقة الرياض، وتم ترميمه وتطويره والقصور الطينية حوله وإنشاء مركز الملك عبد العزيز التاريخي.
وكذلك ما قامت به هيئة تطوير الرياض من قبل بإعادة بناء أجزاء ممكنة من سور الرياض القديم الذي هدم عام 1370هـ، وتم إعادة بناء بوابتي دخنة والثميري في مكانهما الأصليين عام 1409هـ.
ومن هذا المنبر نناشد وزارة الثقافة، خصوصاً ونحن نعلم أنها في طور نقل مسؤولية التراث العمراني من هيئة السياحة ليكون تحت مظلتها، أن تبادر بالعزم على المحافظة على ما تبقى من المباني والقصور التي لا يخلو كل حي من تلك الأحياء التي استعرضناها من مبنى أو مبنيين جديرة بالمحافظة عليها قبل أن يندثر تراث المدينة إلى الأبد وتختفي هويتها الأصلية التي لا يمكن إعادة تدويرها أو نسخها من جديد.
ولنا أن نذكر هنا أحد أحياء الرياض القديمة وهو حي المليحة الواقع جنوب غرب قصر الحكم الذي لا تزال معظم البيوت والقصور فيه قائمة، وقد تم نزع ملكيتها من قبل الأمانة، وتم إفراغها بعد استخدامها كمستودعات ومخازن ويتوقع هدمها وإزالتها عن قريب.
وهذا الحي جاهز أن تلتقطه وزارة الثقافة وتحافظ عليه وتنجيه من الهدم ويتم تطويره وترميمه ليبقى حياً تراثياً بمبانيه الأصلية كما فعلت هيئة تطوير الرياض بمباني المربع الطينية، ويمثل هذا الحي ما تبقى من الرياض التاريخية، إضافة إلى قصور الفوطة التي نوهنا عنها آنفاً فهذا ما تبقى من تراث الرياض العمراني الذي هو شاهد على ثقافة وتراث الآباء والأجداد وتعكس الهوية العمرانية الأصيلة لهذه المدينة الغالية، كما يمكن لهذه التحف المعمارية التي تقع وسط الرياض أن تشكل رياضاً تاريخياً على غرار جدة التاريخية بمبانيها العتيقة، فنحن نعلم أن الرياض ليس لها نصيب من المشاركة ضمن المهرجان الوطني للثقافة والتراث بالجنادرية، ونرى أن كل مدينة وقرية في كل مناطق مملكتنا الغالية تجتهد في إبراز ما لديها من إرث تراثي وثقافي لإبرازه في موقع القرية التراثية بالجنادرية، ونقول هنا هذه فرصة لوزارة الثقافة أن تلتقط ما بقي من معالم تراثية وسط الرياض التي هي قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والضياع ويحافظ عليها بمبانيها الأصلية وتستخدم كمتاحف ونوادي ثقافية ومقاهي وحانات شعبية وتبقى لوحات فنية أصيلة تعويضاً لما يفترض للرياض من تمثيل في مهرجان التراث والثقافة بالجنادرية.
فالله الله بإنقاذ ما تبقى من تراث عمراني لهذه العاصمة المجيدة خصوصاً حي المليحة وقصور الفوطة، وما تحويه الأحياء الأخرى من معالم ومنشآت لا تزال قائمة التي ستبقى مسرحاً مفتوحاً يحكي عن تاريخ وتراث وثقافة الآباء والأجداد للأجيال والزوار والسياح الذين يتشوقون لمعرفة تراث الرياض، ولتتغير النظرة السلبية حول وسط الرياض من أحياء تشوبها الكآبة إلى لوحات فنية حية تحكي تراث وثقافة مدينة ضاربة أطنابها في أعماق التاريخ.
مركز دخنة التاريخي: تقوم هيئة تطوير الرياض في الوقت الحاضر بتطوير أحد أحياء وسط الرياض القديمة كان يقع داخل السور وهو حي صغير يدعى الدحو، ويسمى قديماً القحيز، وهذا الحي الصغير جداً، لا يقارن من حيث الأهمية التاريخية أو العلمية أو الاجتماعية بالأحياء المجاورة، خصوصاً حي دخنة المجاور له الواقع داخل السور أيضاً، حيث مسجد الشيخ الجامعة الأولى في الرياض منذ دخول الرياض تحت لواء الدولة السعودية الأولى سنة 1187هـ وبناء هذا المسجد، الذي أصبح مهوى طلبة العلم من شرق البلاد وغربها وتخرج فيه العديد من العلماء والقضاة وطلبة العلم على مدى قرنين من الزمان.
كما يحتوي حي دخنة على العديد من قصور وبيوت الأمراء والعلماء والمشايخ والأعيان أشهرهم منزل الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ المفتي الأكبر للديار السعودية السابق رحمه الله تعالى، وقد أزيلت معظم تلك المعالم عدا مسجد الشيخ، ويتم حالياً بجانبه إعادة بناء معهد إمام الدعوة.
ومن الملفت أن اسم حي الدحو الصغير هذا وتطويره سيطغى على ما جاوره من أحياء أكثر أهمية منه مثل حي دخنة وغيره من الأحياء المجاورة وستصبح تلك الأحياء في ذمة التاريخ.
لذلك نقترح أن يشمل تطوير حي الدحو كامل المربع المحيط به وبمسجد الشيخ (حي دخنة) الذي يحده من الغرب شارع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الشمال شارع الثميري، ومن الشرق شارع الوزير(الملك فيصل)، ومن الجنوب طريق المدينة المنورة، ويتم تطويره على منوال تطوير منطقة المربع (مركز الملك عبد العزيز التاريخي) ويكون منطقة مشاة، وتسمى الشوارع والممرات فيه بأسماء الأحياء القديمة المجاورة لحي دخنة.
ويطلق عليه مركز دخنة التاريخي، نظراً لما لحي دخنة من تاريخ وقيمة علمية واجتماعية لا ينكرها أحد.
كما أنه من المستحسن أن تعاد إلى حي دخنة المكتبة السعودية وهي أول مكتبة عامة بالرياض افتتحها الملك سعود، رحمه الله، بجانب مسجد الشيخ بدخنة، وقد نقلت هذه المكتبة إلى داخل مقر دار الإفتاء على طريق الملك فهد من الجنوب.
كما يؤمل أن تنقل إلى هذا المركز أيضا دار الكتب الوطنية المشهورة التي اختفت حيث نقلت وزارة المعارف سابقاً محتوياتها إلى قصر أفراح صغير مستأجر بحي السويدي وكان الأجدر على الأقل بأن يحافظ على اسمها الأصلي، بل أطلق عليها مكتبة السويدي! وفُقد عبقها التراثي وأفقد الرياض إحدى مكونات تراثها الثقافي.
وجدير أن تكون ضمن هذا المركز المعالم التراثية الأخرى وسط الرياض والملاصقة لحي دخنة مثل سوق الزل، وسوق الليل التراثي، وحراج التراث، وسوق الذهب، وقيصرية الكتاب ليشكل ذلك مركزاً علمياً وتراثياً مرموقاً ومعلماً سياحياً جذاباً ويستعيد وسط الرياض حياته كما كان قلباً نابضاً لهذه المدينة العريقة.
وفي الختام، لابد أن نشير إلى أنه مع بداية عهد الملك سعود، طيب الله ثراه، نشأت طفرة عمرانية حددت بداية التطور العمراني الحديث لمدينة الرياض، وشهدت المدينة إنشاء العديد من المنشآت التي اكتسبت سمتها التراثية وأهميتها التاريخية فُقد بعضها ولا يزال أغلبها باقياً، ولعل هناك فرصة لنتحدث بالتفصيل حولها في مقال قادم بحول الله.