أ.د.محمد بن حسن الزير
تواجه الأوطان والمجتمعات العربية، تحديات متنوعة، تهدد أمنها الوطني بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ منها تحديات العولمة؛ التي تستهدف إحكام مؤثراتها المختلفة على المجتمعات والثقافات، بسبب طبيعة العولمة التوسعية، وفرض وجودها في إطار موضوعي، وهي من أجل ذلك تستخدم لغتها، وتمكن لها للسيادة والهيمنة، وبالتالي، وبالنسبة لنا تسعى لتهميش اللغة العربية، ومحاولة جعلها لغة تابعة.
ويعرف الدكتور محمد عمارة الهوية العربية الإسلامية بأنها: «جوهر وحقيقة وثوابت الأمة العربية التي اصطبغت بالإسلام منذ أن دانت به غالبية هذه الأمة، فأصبح هو «الهوية» الممثلة لأصالة ثقافتها، فهو الذي طبع ويطبع ويصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته.. فعاداتها وتقاليدها وأعرافها وآدابها وفنونها وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية، وعلومها الطبيعية والتجريبية، ونظرتها للكون، وللذات، وتصوراتها لمكانة الإنسان في الكون من أين أتى؟ وإلى أين ينتهي؟ وحكمة هذا الوجود وغايته، ومعايير المقبول والمرفوض، والحلال والحرام، وهي جميعها عناصر لهويتنا»؛ مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، نهضة مصر. ص 6-7.
وبصرف النظر عن تعدد مفاهيم العولمة وتعريفاتها، وبصرف النظر عن استمرار تشكل تلك المفاهيم وما يعتريها من غموض ووضوح؛ فإن العولمة تستهدف بأبعادها وتحدياتها الاقتصادية والسياسية الاجتماعية والثقافية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إحكام سيطرة مؤثراتها المختلفة على ثقافتنا ومجتمعنا، بوصفنا أحد أهم المجتمعات والأمم التي تستهدفها هذه العولمة، بمحاولة التأثير والتغيير، وبسط هيمنة الفكر الغربي وثقافته وأهدافه على ما سواه من ثقافات بسبب تملُّكه أسباب القوة المادية والتقنية الحديثة وأدواتها؛ مما مكنه من التقدم العلمي والقوة العسكرية.
ويقع في طليعة أهم ما يتعرض لهذا الاستهداف والتأثير السلبي مقومات شخصية الأمة، وخصوصيات حياتها الثقافية والاجتماعية، وحقيقة «هُوّيتها» بما تتضمنه من الوعي الذاتي ومقومات الوجود، فتحقق هذه العولمة، بتوالي تعرضنا لمؤثراتها المختلفة بشكل منتظم ومنظم وبقوة هذه المؤثرات، إحكام سيطرتها على درجة وعينا بذواتنا، ومقومات وجودنا؛ بمعنى أنها قد تغيب فينا أو في كثير منا أو في بعضنا، الوعي بالذات ومقومات الوجود؛ مما يسهل عليها إحكام سطوتها، وتمكين نفوذها في فاعليتنا ومقدراتنا نتيجة لضعفنا وعجزنا عن التأثير والمقاومة.
وفي ظل هذه الوطأة العنيفة لهذه العولمة، وما يصاحبها من أحداث ومتغيرات كبرى تجعل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، موضع استهداف مباشر للتحكم والرغبة في التغيير بما يحقق لهذه العولمة بسط النفوذ واستمرار السيطرة، ومن هنا تأتي أهمية اللغة العربية بوصفها أحد أهم مقومات الثبات والفاعلية والمواجهة، بل والتقدم نحو تحقيق الإنجاز والفعل الحضاري المؤثر.
ومما يجعلنا نلتفت إلى أهمية اللغة العربية في معركتنا في مواجهة الطبيعة التوسعية للعولمة الغربية التي تسعى بفرض وجودها في إطار موضوعي تستخدم اللغة بوصفها أحد عوامل توسعها ونفوذها من ناحيتين: إحداهما التمكين لسيادة لغة دولها و « الهيمنة في المعاملات التجارية والاقتصادية وما يستتبعه ذلك من سيادة ثقافتها وقيمها الخاصة وهكذا بدلاً من أن تصبح التكنولوجيا الجديدة من اتصالية ومعلوماتية وبخاصة الأقمار الصناعية والإنترنت وسيلة للتفاعل والتقارب الثقافي بين البشر، أصبحت وسيلة للتنميط والهيمنة اللغوية والإعلامية والثقافية. والنتيجة المتوقعة بل الحاصلة بالفعل بل المتفاقمة هي احتكار التواصل البشري لمصلحة لغة ومعلومات وثقافة من جهة واحدة بعينها أساسا « لغتنا العربية في معركة الحضارة ص 10.
والناحية الثانية سلبية أخرى تتحقق في جانب لغة المستهدف، وهي في حديثنا هنا (هي اللغة العربية) من حيث تهميشها وجعلها تابعة للغة السائدة؛ بل إنها أحياناً تسعى لإقصائها، وإضعاف تأثيرها في مجتمعها، فتصبح اللغة العربية ضعيفة ذليلة ولهذا قال الرافعي: «ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً، وأما الثاني: فحاكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً؛ وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع»ا المرجع السابق.
واللغة، أية لغة لأية أمة، هي بداية معرفتها في مختلف المجالات والميادين، ووسيلة تواصل أفرادها وجماعاتها، ووعاء ثقافتها ومستودع حضارتها، وطريقة تفكيرها، ووسيلة وصل ماضيها بحاضرها تاريخاً وثقافة وإبداعاً، وجماع هويتها وشخصيتها، فكيف إذا كانت هذه اللغة هي اللغة العربية، وتاريخ حضارة هذه اللغة هي الحضارة العربية الإسلامية بما في هذه الحضارة من عقيدة وغنى وتنوع؟!
وأهمية وظيفة العربية، في تعزيز هوية الذات العربية والإسلامية، وتمكين فاعليتها في حياة الإنسان، وتحقيق منجزاته وتقدمه، توجب علينا أن نبحث في ظواهر ضعفها، وأن نتلمس أسباب ذلك الضعف، وأن نرصد وسائل النهوض بها، وأدوات الارتقاء بأدائنا تجاهها، ونلتفت إلى خطورة التحديات والمتغيرات التي تواجه الأمة ولغتها، وضرورة المواجهة العلمية الواعية لذلك الخطر الداهم، ولهذا يكون استخدام العربية لغة للتعليم؛ من أهم أسباب تعميق روح المواطنة والانتماء إلى الأمة، ويمنع الغربة الفكرية والسلوكية؛ وذلك لما تمثله اللغة لنا من الوطن الروحي الذي ننتمي إليه ونذود عنه فهي « مرآة لشخصية الفرد وطبيعة تفكيره، وكيانه النفسي وسلوكه الوجداني وطابعه الشعوري ومعتقداته وعاداته وطريقة حياته، وهذه كلها أسس لاكتشاف انتمائه الحضاري، من خلال ممارسة اللغة، فاللغة جزء من كيان المجتمع، وكيان حضارته..» د. صابرعبدالمنعم محمد عبد النبي؛ فلسفة التعليم باللغة العربية وباللغات الأجنبية صـ105.
والتعليم باللغة إحياء لها ولأهلها وسدّ لباب من أبواب الاغتراب بينها وبين أهلها، وكما قال شيخ الإسلام أحمد بيرم في محاضرة له عن حياة اللغة العربية:
«وإذا علّمْتَ شخصاً بلغته فقد نقلتَ العلمَ إلى تلك اللغة؛ أما إذا علمته بلغة أخرى فلم تزد على أنك نقلتَ ذلك الشخصَ إليها» فصول في الأدب والثقافة، د. جعفر ماجد، الدار العربية للكتاب، 1984 صـ237.
ولأن المستعمر يدرك أثر اللغة في بث روح الانتماء والمواطنة في أهلها؛ لأنها جزء من شخصيتهم، كان يسعى لتفكيكها، وهو وإن أخفق في ذلك؛ فإنه نجح في تكوين جيل مقطوع عن لغته، لا يرى سبيلاً للتقدم إلا من خلال لغة الأجنبي المستعمر، الذي كان حريصاً على استخدام هذا السلاح بإيجابية تجاه لغته، فالحاكم الفرنسي كان يوصي جيشه الزاحف نحو الجزائر بتعليم الفرنسية ويقول : «علموا لغتنا وانشروها حتى تحكمَ الجزائرَ، فإذا حكمتْ لغتُنا الجزائرَ فقد حكمناها حقيقة « اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي ص 11،ومن قبل الحاكم الفرنسي كان نابليون قد أوصى حملته إلى مصر الوصية نفسها: «علموا الفرنسية ففي ذلك خدمة حقيقية للوطن «. وللحديث صلة.