فهد عبدالله الزهراني
كثيرة هي تلك المواقف التي تجعل من ادعاء معرفة الحقيقة الكاملة غير صحيح وأنها حقائق لا تزال في حالة تشظى عند وجود مزيد من التعلم والممارسة ويعود ذلك أحياناً للتزايد المطرد في اتساع مساحة الحقائق أو قصور الإنسان في أدواته المعرفية مهما تنامت لديه.
لذا كانت الحكمة أكثر أهمية من معرفة الحقائق لكونها تعتمد في تشكيلها بين الحقيقة وطريقة إدراكها وما يمكن أن ينشأ منها من الإقرارات لمساحات المعرفة الناقصة التي لن ولم تمتلئ أبداً مما يساهم في وضع الأمور في موضعها قدر الإمكان.
وعند إدراك ذلك سيتوهج ذلك الدافع الملهم لرغبة معرفة أنقى المعارف والحقائق وتلك المشتركات الإنسانية التي يجمع عليها عقلاء البشر في صورة من أرقى الصورة الإنسانية لتحري الحكمة وحل الأحاجي في تلك الصور المبعثرة التي قد لا تكتمل كلياً بعد تجاوز الحلول.
لذا ستنضج مظاهر الحكمة في نفس صاحبها عندما يميز الفرق بين معنى العيش والبقاء على قيد الحياة، فالبقاء على قيد الحياة تتسور بالزخارف المادية الزائلة مهما تعاظمت.. بينما حالة العيش ستجعل من الإنسان إنساناً, وتجعل من الوعي هو البوصلة والممارسات والتعلم من الأخطاء هي الطريق.
ستنضج تلك الحكمة عندما يكون السلام الداخلي مقدماً على هياج (المزيد) ورغبة تكديس الماديات التي لن تصل لحالة الارتواء رغم محاولات إشباع ذلك الظمأ, ويعتقد بأنه ليس من الحكمة الانشغال بما هو خارجي وزائف مهما تضاخم على ما هو داخلي حقيقي ومصدر للسعادة والرضى الدائم.
ستنضج تلك الحكمة عندما تكون رحلة التعرف على الذات دائمة الوقوع وتجاوزت كماً وكيفاً تلك المعارف الموجهة للخارج, فكل تلك العوائق والتحديات التي في الخارج صغيرة جداً في حالة الرحالة المكتشف للداخل والعكس أيضاً صحيح, عندها ستكون الرفاهية لها معنى مختلف يتجاوز تلك المعاني التي تدور حول التعلق بالأشياء وستكون أداة الانفصال سهلة الاستخدام لذلك الرحالة.
ستنضج تلك الحكمة عندما يكون الحب هو دافع الانسجام والعمل والارتباط، أنظر إلى مخرجات تلك القصص ذات الصبغة الإنجازية والمفعمة بالحب وقارنها بالقصص المرتبطة بالخوف أو العرف والنظام, حتماً ستكون نوعية النتائج حاضرة ولو بعد حين.
ستنضج تلك الحكمة عندما يدرك الإنسان أنه كائن تختلط فيه مظاهر الصحة والخطأ ويتفهم ذلك ويتقبله وينزع إلى توسيع مساحة الصحة التي يعلم مسبقاً بأنها ستزاحم الخطأ وتقلل من مساحته ولا يتفاعل مع الخطأ إلا بمزيد من الأفعال الصحيحة دون كدر الخطيئة أو آثار اللا فعالية.
ستنضج تلك الحكمة عندما تسيطر أسئلة ماذا ولماذا وكيف وما يتبعها من دهشة معرفة ما وراء الأمور الظاهرة حيث هناك تنتعش الحكمة وتتابع في بنائها وتطورها إذا كان النفس طويلاً في محاولة لملمة إجابات تلك الأسئلة.
ستنضج تلك الحكمة عندما يكون هناك ديمومة انشغال في الإنجازات أياً كان حجمها أو نوعها، ولن تكون الراحة في قائمة الأهداف المطلوبة لسبب بسيط في عقلية المريد للحكمة أن النمو والازدهار سيكون معلقاً عند الوصول لعتبة منطقة الراحة.
ستنضج تلك الحكمة عندما تلوح المخاوف في الأفق ويتقدم إليها بشجاعة الفرسان لأنه في قرارة النفس استوطنت معاني القوة التي تخلفها مجابهة التحديات.
ستنضج تلك الحكمة عندما يكون هناك تآلف مع صفة عدم الانشغال بالآخرين حكماً وتقويماً لأن الميدان الذي تمارس فيه رحلتك الذاتية يشغلك عن كل تلك الألعاب النارية التي في ميادين الآخرين وإن انشغل يوما بذلك سيوجه ذلك الانشغال بما يعود نفعاً للرحلة الذاتية الداخلية.
ستنضج تلك الحكمة عندما يكون التواضع هو الثوب الذي يُرتدى كنتيجة طبيعية للعمق النفسي والمعرفي الذي تقاسمت ملامحه في ذلك الرحالة المكتشف.
ستنضج تلك الحكمة عندما تتجلى مفاهيم أن الحقائق لا تحتكر وأنها قد تظهر في أشكال متعددة ليست في أفق النظر الحالي، عندها ستكون الأفكار والآراء مهما كانت شذوذيتها قابلة للنظر والاطلاع والتفكر. ليست الحكمة والطريق إليها طريقاً واحداً وإنما طرق وأودية متعددة لا حصر لها، من أستطاع رؤيتها ومحاولة المشي فيها فقد أوتي خيراً كثيراً.