د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تُعنى التربية بالتنشئة الأخلاقية للمجتمع، وتضطلع بها الأُسر والمدارس. وعندما تكون هناك قناعة وتكامل واتفاق بين الأسرة والمدرسة على شكل النظم الأخلاقية التي تتم برمجة النشء عليها، وعندما تكون هذه النظم منسجمةً مع واقع العالم الخارجي، ينعكس ذلك انسجامًا وتواؤمًا بين النشء ومحيطه الخارجي، يكون أثرها متصالحًا مع نفسه ومع محيطه. وفي حال وجود عدم توافق بين هذه النظم الأخلاقية تكون شخصية النشء والشاب قلقة، مضطربة، محتارة ومتقلبة. وعندما تشتد حالات القلق والحيرة تبدأ مرحلة عدم الاستقرار النفسي المتمثلة في الاكتئاب أو القلق المزمن وغيرها؛ فيتحول الشاب إلى كائن غير منتج وغير مبدع، ويعيش عالة على المجتمع.
ولكن المدرسة أو الجامعة تترك دورها التوجيهي المباشر بعد خروج الشاب من جنباتها؛ فتنتهي مرحلة التوجيه والأدلجة المباشرة إلى مرحلة أخرى، يأخذ فيها التوجيه شكلاً اختياريًّا، يعتمد فيه الشاب على انتقاء ما يناسب عقله من محيطه بناءً على اختياراته هو، لا اختيار معلميه وموجهيه المباشر. وتبدأ مرحلة مقارنة ما حوله بما سبق وتعلمه. وللأسف، فإن جُل ما يتلقفه الشاب اليوم يأتيه من الإعلام بأشكاله كافة. وهنا تتنافس على عقلية الشباب وسائل إعلام مختلفة المحتويات والأشكال.
اليوم، وفي عالم متقارب جدًّا، تنهمر على الشباب وسائط إعلام لا حصر لها بمحتويات مختلفة المشارف والأيديولوجيات. وأمام الشاب إما الاستفادة منها لتوسيع مداركه، أو التقوقع أمامها والتخندق فيما سبق أن تعلمه؛ فيرفض كل جديد حتى ولو كلفه ذلك التخلف عن ركب تغيرات العالم فيما حوله. واليوم نشاهد غزوًا غير مسبوق للإعلام الخارجي، خاصة الغربي والأمريكي، ليس لنا فقط بل للعالم أجمع. ولم تعد تجدي مع ذلك أي قوة رقابة أو حظر. وللأسف، ففي وسائط مثل الأفلام السينمائية، واليوتيوب، ونيتفليكس وغيرها لا يتم عرض الثقافة الغربية المحافظة البناءة التي تحث على التعليم والإنجاز وغيرها من القيم الرأسمالية المنتجة، بل يُبث فيها مواد تعتبر بمعايير تلك الدول ذاتها هدامة للنفس البشرية. ومن أجل المال، والمال فقط، تعتمد وسائط الإعلام هذه على تمجيد الجنس المنحط، وشرعنة العنف القاسي كمحتويات أساسية لتسويق هذه المواد. هذان المحوران يرتكزان على غرائز إنسانية دفينة، هي الجنس، والخوف، وحب السيطرة؛ فيتم إشباعها بشكل زائف عبر الأفلام.
وبما أن الرقابة لا تجدي نفعًا للتصدي لهذه المواد التي يشاهدها حتى الأطفال على جوالاتهم بلا ضوابط، يبقى السلاح الوحيد لمواجهتها هو التوعية، التوعية الإعلامية الحقيقية، وليس قفشات الإعلام الاجتماعي الذي يسدح فيها ويردح كل من هب ودب. فإعلام الوسائط الاجتماعية: تويتر، سناب وغير.. أُعطي أكبر من حجمه بكثير، وتوهم البعض مستعجلاً أو جاهلاً أنه سيحل محل الإعلام التقليدي الذي كان دومًا امتدادًا للتربية المجتمعية. ونتيجة للدعاية الضخمة لهذا الإعلام توهم الناشئة والشباب لدينا أن ما يتابعونه عبر هذه الوسائط يغنيهم عن القراءة، القراءة الجادة التي تحصنهم وتحصن عقولهم، ثم بدأ موال الحديث عن موت الصحافة.
ما مورس في الوسائط الاجتماعية لم يُجدِ نفعًا أيضًا في الدفاع عن نظمنا الأخلاقية، بل على العكس من ذلك، أصابها في مقتل بسبب التسطيح، والتشويه، والبذاءة في كثير من الأحيان. علاقاتنا مع كثير من إخواننا العرب تشوهت، بل علاقات فئاتنا الوطنية ومكوناتنا الاجتماعية تشوهت أيضًا بسبب وجبات الإعلام الجديد السريعة المضرة.
الجميع يلحظ أن المملكة في مرحلة تغير وتطور، سواء من ناحية الانفتاح الاجتماعي أو التشريعي، أو مفاهيم الحقوق والواجبات، أو حتى بعض المفاهيم القيمية القديمة. ومراحل التغير هذه تحتاج لتثقيف جاد؛ ليتفاعل معها الناس بشكل إيجابي، وكل ما فعلته وسائط الإعلام الاجتماعي هي تشويش هذا الفهم. وبدأنا نشاهد ظواهر غريبة على مجتمعنا، لم تكن ضمن حسابات الإصلاح لدينا، ونلحظ تصرفات لشباب وشابات، هي بشكل واضح من إيحاءات القيم السلبية التي تغزو مجتمعنا، ويتلقفها بعضنا دونما فهم أو وعي. وللأسف، هناك أيضًا قصور واضح لإعلامنا في توضيح قضايانا والدفاع عنها. ونحن لا زال لدينا الأمل في وزير الإعلام الجديد أن يضع الأمور في نصابها، وعلّقنا عليه آمالاً عراضا؛ كونه من الوسط الإعلامي، وفيه ولديه خبرة متجذرة في الإعلام المرئي.
وفي الختام، نحن قد نخسر صحافتنا في سنوات، ولكن قد نحتاج لعقود لنستردها، ولن يجدينا نفعًا أخذ أسماء ووكالات صحف عالمية بنظام الفرنشايز. فمن يُرِد هذه الصحف يجد نسخها الأصلية بلغتها الأصلية على الإنترنت.