د. حسن بن فهد الهويمل
الصراع إكسير الحياة، سواء كان بين الحق والباطل، أو بين المصالح المتعارضة، أو على مناطق النفوذ، أو بدوافع [أيديولوجية]..
[كُلّمَا أنْبتَ الزمَانُ قَنَاةً * ركَّبَ المرْءُ في القَنَاةِ سِنَانَا]
على الرغم من أن مراد النفوس أحقر من التفاني. وكيف لا يكون، والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
فكل الذي فوق التراب تراب، وكل نفس ذاهبة. والموت هو اليقين المستبعد.
لقد عاصرتُ زعماء أمم، وأثرياء، وكبار شخصيات، يكاد أحدهم أن يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً بكبريائهم الفارغ، وجبروتهم المتوحش.
لقد مات بعضهم ميتة سوء، ومزق الناقمون أجسادهم، وتُرِكت جثثهم للكلاب الضواري. وما ينتظرهم في الآخرة أشد، وأنكى:- {وَقِفُوهُمْ إنِهُم مَّسْئُولُونَ}، {يَا لَيْتنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهَ وَلَمْ أدْرِ مَا حِسَابِيهَ يَا لَيْتهَا كَانتِ الْقَاضِيةَ مَا أغَنىَ عَنِّي مَالِيهَ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهَ}. السلطان والمال سيُفارقهم {وَلَقَدْ جِئْتمُوناَ فُرَادَى كَمَا خَلَقْناكُمْ أوَّلَ مَرةٍ وَترَكْتُم مَّا خَوّلَنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}.
والراصدون العقلاء المتأملون، والمتألمون، ينظرون إلى واقع الأمم، ثم لا يستطيعون ثني المتصارعين عن غيهم، ولا فك اشتباكاتهم، ولا فض نزاعاتهم، والتوفيق بين وجهات النظر. وقد تحملُ البعضَ منهم نعرةُ القبلية، أو الطائفية، أو المذهبية، ثم تؤزهم عواطف الولاء، ويخوضون الفتن، وكل واحد منهم يردد:-
[ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوتْ * غوَيْتُ وإنْ ترَشُدْ غَزِيَّةُ أرْشدِ]
كان الصراع بين مُفترسين على فرائس، ثم اختلطت الأوراق، وتشابهت البقر، فكان بين الأهل، والعشيرة:-
[إذا احترَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها * تذَكّرتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها]
قَتلُ الأبرياء من معتزلين، وأطفال، ونساء، وشيوخ، وتشريدُ الأقوياء في آفاق المعمورة، ممن يواجهون التعليق على الحدود، أو الغرق في البحار، أو الاضطهاد في المنافي، وهدم البيوت على أصحابها، وتخريب البنية التحتية، وإشاعة الفوضى الهدامة، والخوف المفجع.
وكلما شارفت النار على الانطفاء زادها المستفيدون سعيراً. تبدأ الفتنة بين طرفين متمايزين معروفين، حتى إذا تعمقت، واتسعت، زادت تعقيداً، بحيث يظهر كل يوم طرفٌ جديد، يزيد في خلط الأوراق، وتشعيب المسائل، ولكل طرف داعمٌ، ومحرضٌ، ومستفيد.. والشعوب البريئة هي التي تتجرع المرارات، وتتلقى الضربات، وتنشأ بين أطيافها العداوات.
وصدق من لا ينطق عن الهوى «وَالَّذِي نفسِي بِيَدِهِ، لاَ تذَهَبُ الدُّنيَا حَتَّى يَأتِيَ عَلَى الناَّسِ يَومٌ لاَ يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتلَ».
وها نحن نعيش هذا الوعد في عالمنا العربي في [سوريا، وليبيا]، وكل دولة عربية اجتاحها وباء [الربيع العربي] دفعت ثمناً باهظاً من الدماء، والأموال. وما أحد يستطيع حسم الموقف لصالح أي طائفة. إنها إرهاصات الساعة:- {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تكُونُ قَرِيباً}.
هذه الفتن العمياء التي تجتاح عالمنا العربي تصيب البعضَ بالإحباط، واليأس والقنوط، ويظنها سبة الدهر، ومؤشر تخلف، وجهل. وما هي كذلك.
لقد دمر العالم الغربيُّ والشرقيُ نفسه في [حربين عالميتين]، أهلكتا الحرث، والنسل، وهدمتا المباني.
وأحداث أمتنا لم تبلغ عُشْرَ همجية الحربين العالميتين. وكم أتمنى أن تصقلنا تلك الفتن مثلما صقلتهم، وتوعّينا مثلما وعّتهم، وتجمعُ كلمتنا مثلما جمعت كلمتهم، لعلها تكون ناراً تنفي خبث الحديد، وتعيد لأمتنا: وعيها، وتفكيرها السليم، ووحدتها على كتاب الله، وسنة نبيه.
لقد انهارت القوميات في أوروبا، وهي في أمريكا في حساب العدم، وانهارت في [الربيع العربي] ولم يبق انتماء إلا للعقيدة، والأرض. فالقرآن الكريم وضع للأرض والدين قيمة متسَاويةً. فالقتال في الدين والإخراج من الديار هما شرط المواجهة العسكرية.
ولكي تعود أمتنا إلى رشدها لا بد من إعادة ترتيب الأوراق، والأولويات، ووضع ميثاق شرف يتمثل بعدم الاعتداء، وعدم التدخل، وعدم تصدير الأنظمة، والمبادئ. وعندئذ تعود الأوراق إلى [أضابيرها]، والأمور إلى مجاريها.