عبدالعزيز السماري
قبل ثمانية آلاف عام، جلس أحد الحرفيين داخل منزله المبني من الطوب الطيني، وفرك قطعة من حجر السج بيديه، ومسح السطح بعناية، وصقل الحجر حتى أشرق أشعة الشمس في الظلام، ومنذ تلك اللحظة أصبح الإنسان يمكنه رؤية وجهه وجسده في الجدار، ووولدت تلك اللحظة المرآة، وكان ذلك يوم ميلاد لن يُنسى لنرجسية الإنسان ورغبته في النظر إلى شكله كل صباح ومساء..
في كثير من الأحيان قد تفقد الأشياء متعتها، إلا المرايا تحتفظ بقدرتها على جذب انتباهنا كل يوم، وتحتفظ بقدر معين من القوة والسيطرة علينا، وأصبح وجودها ركنًا أساسيًا في حياة الإنسان، لكن الاختلاف يكمن في حجمها وقوة تأثيرها، فالبعض يحتفظ بجزء مكسور من مرآة، ويستطيع من خلالها رؤية نفسه وإشباع بعض من رغباته كل صباح، بينما آخرون لا يتوقفون عن امتلاك مرايا أكثر وأكثر من أجل أشباع لا يتوقف لرغباتهم وغرائزهم الفردية، تماماً مثلما تصور الإغريق حتمهم في قصة نرجس، فقد يغرقوا وهم ينظرون إلى عيونهم في الماء.. حكاية نرجس قصة ذات بعد أخلاقي تحذر من الغرور والكبرياء والإعجاب المفرط بالنفس، لكنها تدل أن النرجسية تضخمت كثيراً عند الإنسان بعد أن أدمن مشاهدة وجهه كل صباح في انعكاسه على وجه الماء، كذلك هو الإعلام، الذي يعد المرآة الأضخم في تاريخ البشرية، فقد كرسه الإنسان لتضخيم إنجازاته وإرضاء غروره والنظر إلى نفسه وأفكاره كلما انخفضت معدلات النرجسية عنده، ولهذا يحرص على تقديم الصور المختلفة والمتنوعة عن فرط الإعجاب بنفسه، لكن الاختلاف بينهما أن المرآة تعكس كل شيء يقف أمامها، مع اختلاف في موضع اليسار واليمين، بينما الإعلام يقدم صورة متحركة لمختلف الزوايا، وقد يصعب التحكم فيه تماماً..
أثبتت الأيام فشل نظرية اختزال الإعلام في مرآة عملاقة فقد يغرق الجميع مثلما غرق نرجس، والسماح باختلاف زوايا المرايا الإعلامية في المجتمعات يؤدي إلى توازن في معدلات النرجسية المفرطة، وربما يمنع الكارثة بسبب ذلك الإفراط، وبسبب غياب تعدد الآراء ومصادرها، سيطرت الأنانية والمرايا الشخصية على الساحة، وقد فجرت وسائل الاتصال الاجتماعي انعكاسات للمرايا الفردية بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، فقد أصبح لكل إنسان مهما كان، إعلامه الخاص الذي يستخدمه كمرآة كل صباح لإرضاء نرجسيته وغرامه مع نفسه..
لا يمكن التنبؤ بنهاية هذه المرحلة الطاغية بالنرجسية الفردية، وقد لا تكون نهاية سعيدة، فالحالة الفردية في الإعجاب تعبر عن أزمة نفسية، ولعل السبب يمكن في إضعاف المرايا الجماعية الأخرى، وإيصالها إلى مرحلة الضعف والاستسلام، وربما الإفلاس، وإن حدث ذلك ستبدأ مرحلة أكبر للصراع والصراخ النرجسي على الهامش، ولن يخرج الحل من أن يكسر كل منا مرآته الصغيرة، والنظر إلى الوطن من خلال مرايا أكثر قدرة على التوازن والحكمة، ولكن بدون ذلك الفرط السلبي بالإعجاب بالنفس، الذي قد يصل إلى مرحلة إيذاء الوطن..