عبدالمحسن بن علي المطلق
بالأمس رحل العم الشيخ (عبدالله بن سليمان النصيان) ابن العمة والجار والنسيب.. من بعد رحلة مع الحياة لم تكن من السهولة.. إذ تخللها أعباء وأحمال تنوء على من لم يعطِ الدنيا قدرها، ولو من وجه وعي حقيقيّ للآية {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}.. ولكن أُبدي قبل أن أشرع.. أنه ليس من السهولة الكتابة عن الفراق ولا وقعه؛ فكيف حين تملي عن نوعية من الرجال الذين قام جيل كامل على عضدهم.
فليست الجُمل بالتي تبدي عما نكن لفقيدٍ جليل القدر من ضمار من مضى من أسرتي، فهو ابن عمة والدي (منيرة بنت صالح المطلق)، وقد أطلق أبي -يرحمهم الله- على شقيقتي بل هي أمي الصغيرة «منيرة» رعاها المولى الاسم عليها تيمناً.
كما حاز من المكانة التي لا يسعها تعبير قلم يسوّل له صاحبه أنه أهل، وما بلغ عُشر ذاك، فهو أكثر من يعلم أنه لا يقوم بحق الأعلام إلا علمٌ مبرّز..
فأين صاحبكم وهذا الوصف.. بالذات وهو يقدم على هذا بيراع بسيط متضوضع.. العطاء، بالقياس لهامات قدّمت بالفعل قبل أن تغادر دنيانا نموذج من (العصامية) في الاعتماد على الذات ما يجعلها (كـ فقيدنا) مدرسة قائمة بذاتها، مستوفية الشروط، أن أوفت بما أنيط بها ولم تبخس من الجُهد.. الذي تستطيعه شيئاً فتتذكر بمثله وجهاً جليلاً من آية تشير لـ{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أن تكون مآثرهم لمن خلفهم القدوة، بل طرّ البوصلة لمن رام طريق البذل والإقدام، أمام دنيا مغرية من وجه، وثقيلة (أحمال أعباء في كل يوم يعيشه المرء)..
حتى جاز تلكم الصعاب، فما إن بلغ بما ينوء بأثقاله أولي العصبة قنطرة السلامة سلّم الراية لمن يحمد له جهده أن بلغ بها مبلغ الأمان، بخاصة وقد ناهز التسعين أو عداها بنيف من السنين، لم يشكُ يوماً أو يتبرّم، بل كان ندا للحياة وأوصى بها.
قدّم الشيخ عبدالله النصيان رحمه الله تعالى قبل أن يقدم للمولى من أعمال الخير التي ختمها بـ(جامع) كبير نسأل الله أن يجعل ذاك مما ادّخره ليوم معاده وإن أمسى -بلا قصد منه- يصدع بصيته. وهذا ما نحسب لأمثاله ممن لم يسعوا يوماً لسمعة، ولا أبدوا عن أي صنيع غرض وجاهة، أو استشراف ثناء.. عليه البتة.
فذاكم النوعية حاشاها أن تكون الدنيا لأثرهم بُغية، بل إننا نحسبه.. من حين اختار من خير ما يملك الأرض، وعمر بجليل جهد حتى استقام.. فأخذ مبوأً من حسن الذكر له.. بما أتقن بذاك الجامع، أكرر/ والذي قبل نيف من السنين تمّ افتتاحه (والحمد لمن له الفضل والمنّة سبحانه)..أن كان ذلك على مرأى من عينه، لتقرّ بتمام العمل المقلة، وما فاض عليها من وجده جلائل الصنعة، نحو ما ترضاه عن ذاك نفسه، فقد/ تسنى لي في العام الفارط أداء صلاة التراويح في بيت من بيوت الله في أرقى أحياء بريد/ الصفراء (تحديداً شمال شرق مشفى الحبيب)، جامع.. مهيب جلالاً وباهراً جمالاً ويموج روعةً، ذا وقع يملأ النفس خشوعاً ويزيدها امتلاءً. غبطة لعامره دنيا وأخرى، وغبن في كليهما على هاجره
وقد أمسى بفضل الله تحفةً.. يزدان بها قلب المؤمن مما يقف اللباب عن وصفه.
ثم تُمم بما أسدى عليه ميزة شهيرةً/ ما يستقطب عمار بيوت الله «الإمام»الذي ما شاء الله لكأنه لنديّ صوته قد أوتي مزمارا، مع ترسّل في التلاوة تغري حتى غرّ -مثلي- أن يُتم معه ما ابتدآه، فذاك (والله) مكمن يفيض على الذات خضوعاً وخشوعاً/ ((جامع النصيان)).. تطقست فإذا مقام العم -عبدالله النصيان.. - من قام عليه -عمره - فزاده على حُسن الصنيع إحساناً وجلله إتماماً، فذكرت عندها حديث (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).. أسأل الله أن يجعل فقيدنا من ذاك الفصيل؛ فكان.. والحمد لله مقاماً شاخصاً عالياً وبنياناً مرصوصاً باسقاً يُحسب له.. لأن فقيدنا مدّه بما وسعه من إحسان في البنيان، وتعاهد على الأركان، فتنبو لذاكرتك عندئذ أبعاد آية {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} دقق بـ(أحسن..)، ليس أكثر.. ولا أكبر؛ لأن «الإحسان»هو موضع الاختبار.. فالعمل الصالح -والحمد لله- مبذول، لكن تعاهده في تحسينه فذاك أعلى المراتب، وأغلى المطالب.. لهناك {يَوْمُ التَّغَابُنِ}.
مضى شيخانا «أبا صالح» والقلوب تشيعه بـ/ هنياء بالذكر الذي تركته، ونديّ قلوب على الثقل الذي أخلفته، وإنّنا لنحسب في خلفك نعم الأثر، اللهم بارك بهم، وآلف بين قلوبهم وجبر الله على مثلك -يا عم- أفئدة تهوي في توجّد بينْ أمثالكم، فنوعيتكم السراج للساري في دلجة مصاعب الحياة.. التي جبتوها بقلب جرئ، وبصحبة في فلاواتها همّة قوية الخطوات، لا.. لم تتقهقهر أمام مصاعب الدنيا، أو تتبدل أمام فِتنها، والتي بالسنين الأخيرة أمست على جيلنا تترى، فما يدري ما يُصدّ منها!.
ويكفي أن كل ما يأتي أمر.. خفّف ما قبله، وبمثل هذا أنبأ الحديث؛ فالحمد لله.. لأن مسّ مثل فقيدنا بعضها، فإنها لم تأخذ من رصانته بضع حيّز ولا استطاعت مما استلبته منّا ما يغري، ولعل هذا بإذن الله امتحان نجحتم به يا (عماه..)، كما وبأمثالها ممن بحق يقال بهم/ هنيئاً له.. قد طاب حياً وميتاً فما كان محتاجاً لتطيب أكفاني؛ فرحمك الله، ووسع مثواك، وأنزل عليك الرضوان، وجعل نسائم الرحمات عليك غوادٍ رائحات.