الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد فضيلة الشيخ سليمان بن عبدالله الماجد قاضي الاستئناف وعضو مجلس الشورى السابق أن القضاء مختبر عملاق للأخلاق والسلوك سواء كان للقاضي أو للخصوم، وأن مجلس الشورى ملتقى للخبراء النبلاء. وكشف الشيخ سليمان الماجد لـ»الجزيرة» أن القضايا المالية أو المعاملات هي أكثر القضايا التي نظر إليها في المحكمة العامة، مشيراً إلى أن علاج القضايا الاجتماعية يكمن في دعم مراكز التنمية الأسرية للمحافظة على الأسرة من الانهيار والتفكك وتجنبها اللجوء إلى المحاكم.
وقدم قاضي الاستئناف معالم لمعالجة ظاهرة تسرب القضاة من المحاكم الذي يكبّد القضاء خسائر كبيرة مالية واقتصادية واجتماعية. وتناول الحوار مع الشيخ سليمان الماجد موضوعات متنوعة تختص بتطوير القضاء، وغير ذلك وفيما يلي نص الحوار:
* بعد خدمة تزيد على الثلاثين عاماً في سلكي القضاء والشورى.. ترى بماذا خرجتم من تجربتكم العملية؟
- القضاء مدرسة بل جامعة متخصصة لأنه يمر على القاضي في المحكمة العامة قبل إقرار التخصصات القضائية أغلب أنواع القضايا، ومن خلال تلك القضايا تُنمى معارف القاضي وتُصقل مهارته، ولهذا فإن صنعة القضاء لا تتحقق إلا بأمور من أهمها: المقدرة العلمية، والاستدلالية، وكذلك: التجربة والتطبيق فمن فاته أحدهما لم يكن قاضيا، وفي القضاء يتحقق التطبيق ويعزز الجانب العلمي، ومن خلال القضاء يتعرف القاضي على أنماط السلوك الحميد كالوفاء والصدق والوضوح والتعفف عن اليمين، كما يوجد في قاعة القضاء الكذب ومحاولة خداع المحكمة أو محاولة تضليلها عن الأدلة وطرق العدالة فيخرج القاضي منها بمعرفة أساليب المكر.
كما أن القضاء مرصد صادق ذو عدسة صافية جداً لمعرفة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، ولهذا أقترح على الجهات البحثية في علم الاجتماع أن تتعاون مع وزارة العدل لرصد هذه الأحوال وحفظ التاريخ الاجتماعي للوطن؛ بطرق لا تمس خصوصيات الناس.
والقضاء مختبر عملاق للأخلاق والسلوك سواء كان ذلك للقاضي، أو للخصوم.
أما مجلس الشورى فهو ملتقى الخبراء النبلاء، حيث وجدتُ تحت قبته جامعة متكاملة أفدت منهم في كل فن وتخصص.
* عبر مسيرتكم في القضاء ما أكثر القضايا في المجتمع، وما أسباب تزايدها، وكيف ترون الحلول لعلاج تلك المشكلات؟
- القضايا المالية أو المعاملات هي أكثر القضايا، ثم قضايا الأحوال الشخصية، ثم الجنائية وذلك حين كنا ننظر في المحكمة العامة جميع هذه التخصصات.
وأبرز ما يمكن أن يعمل لعلاج القضايا الاجتماعية هو دعم مراكز التنمية الأسرية للمحافظة على الأسرة من الانهيار والتفكك وتجنيبها اللجوء إلى المحاكم.
* هل وجدتم أن اعتماد التخصص المتعدد للدوائر والقضاة في نوع معين من القضايا كالتجارية والعمالية والجزائية أفضل من الحال السابقة؟
- بلا ريب أن التخصص أفضل للقاضي وللخصوم في تحقيق العدالة؛ لأن القاضي مع التخصص يكون أكثر إلماما بالفقه الموضوعي والإجرائي والنظامي في موضوع تخصصه فيكون الحكم أقوى بناءً وأكثر دقةً وأسرع إنجازا.
* وهل تدوين المحتوى الفقهي في أبواب القضاء والإلزام به مناسب أيضا؟
- نعم أرى أنه موافق للمصلحة ولا يعارض شيئا من أحكام الشريعة كما أنه أكثر تحقيقا لصحة الاختيار الفقهي في باب القضاء من اجتهاد قاض في أولى درجاته القضائية لكون المدونة قد دُرست من قبل قضاة من جميع درجات السلك القضائي وتمت مراجعتها من قبل فقهاء أَثْبات، كما أنه أبعد عن محتملات الهوى عند القاضي حين يُسوَّغ له أن يقضي بأمر ثم يمكنه الرجوع عنه إذا أداه اجتهاده إلى غيره في قضية أخرى.
كما أن استقرار القضاء أدعى إلى استقرار المعاملات ومعرفة الناس بما لهم وما عليهم من حقوق.
وهو مما يعين على تقليل تدفق القضايا حين يعلم المدعي أن للمسألة عند القضاء وجها واحدا لا يتعدد بتعدد القضاة.
وأما ما يقال عن مخالفته لأحكام الشريعة فغير صحيح لأن عمر رضي الله عنه كان يجمع المهاجرين والأنصار فإذا انتهوا إلى شيء في مسألة معينة =كان القضاء عليه؛ كما فعل في مسألة أمهات الأولاد وبعض مسائل الطلاق، وقد كان الأمر على خلافها سابقا.
وأما قولهم إنه قضاء من القاضي بما قد لا يعتقد صحته فهو صحيح ولكنه جائز فما زال القضاء في العصور الإسلامية على مذهب كل بلد وإلى وقت قريب في عهد جلالة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، وبعده بعقود حيث اعتمدت كتب محددة في المذهب الحنبلي.
كما أن قرين القضاء هو الفتوى، والفتوى كانت في البلدان التي ساد فيها مذهب معين= تكون الفتوى فيها على ذلك المذهب ولم يكن نكير في هذا رغم أنه يوجد في كل زمان ومكان من أهل الفتوى على مذهب معين من هو أهل للاستدلال والاجتهاد مما يبعد معه أن يكون أولئك المفتون قد أقروا في أنفسهم بصحة كل ما في مذاهبهم، ومع ذلك فقد كانوا يلتزمون الفتوى بمذهب معين بخلاف ما يعتقدونه، وكل ذلك كان لمعان مصلحية ولرعاية قواعد السياسة الشرعية. هذا وكيان القضاء أولى بهذه المصالح والقواعد من باب الفتوى.
ومع ذلك فهناك من يرى أن يكون التدوين والإلزام به من خلال مبادئ المحكمة العليا، وأن هذا يجمع بيت توحيد الأحكام ورعاية المتغيرات، وهذا له وجه.
* بماذا تفسرون خروج بعض العاملين في القضاء إلى العمل الخاص في الاستشارات الشرعية والمحاماة في وقت مبكر؟
- من المؤكد أن لكل قاض ظروفه الخاصة في طلب التقاعد المبكر أو الاستقالة، ولكن يحسن بكل جهة حكومية أو قضائية أن تسعى إلى التعرف على أسباب كثرة تسرب منسوبيها حتى يمكن علاجها وقطعُ روافد تلك المشكلة بطريقة مهنية ومن خلال خطة شاملة تنتهي إلى حل المشكلة جذريا أو شبه جذري لأن التقاعد المبكر أو الاستقالة تُلحِق بقطاع القضاء خسائر كبيرة جدا ماديا ومعنويا، وذلك أنه بعد اكتمال خبرة القاضي ونضجه فإنه ينتقل إلى جهة أخرى فيؤدي الأمر إلى قلة الخبراء والمخضرمين في بعض المحاكم مما يفقد القطاع جدارات قادرة على نقل الخبرات والمهارات التي تحتاج إليها المحاكم.
وقد سعى مشروع تطوير القضاء وبتوجيهٍ من مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله إلى تطوير هذا المرفق وأبدى معالي الدكتور وليد الصمعاني رئيس المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل جهودا مباركة في هذا المقام أثمرت منجزات مبهرة غيرت وجه القضاء إلى الأفضل، وكانت حلقات التطوير متصلة بجهود أصحاب المعالي وزراء العدل السابقين فشكر الله المسعى وبارك في الجهود.
ومما سعى قادة العمل القضائي إليه ونؤكد عليه هنا لعلاج مسألة التسرب ما يلي:
1 - تطوير بيئة مكتب القاضي وأن يُكفى من مسؤولية جميع الأعباء الإدارية وحتى من الإشراف عليها، وأن يُعهد بهذا إلى مساعد رئيس المحكمة أو أمينها، ويكون للقاضي دور الرقابة والتقويم فقط، ويعفى كذلك من الأعباء شبه القضائية التي يقوم بها في أكثر دول العالم أمناء السر القضائيون كالتبليغ بمواعيد الجلسات وتقييد عدم حضور الطرفين أو أحدهما واستلام المبالغ وتسجيل انتهاء مدة الاعتراض ونحوها مما لا يدخل في صلب الدعوى والمرافعة وتوجيه القضية؛ لأن تحمل القاضي لجميع أعباء المكتب هو أحد أسباب أعراض كثير من القضاة عن الاستمرار في العمل.
2 - وضع خطة لتأهيل القضاة الجدد حتى يكون التعيين أكثر من التسرب بفارق كاف في زيادة التعيين حتى لا يحصل العجز، وهذا يحتاج إلى مستهدفات نوعية وعددية محددة مسبقا يستطيع مقام المجلس الأعلى للقضاء أن يعرف بها مقدار الإنجاز في توفير الأعداد المطلوبة كما يستطيع أن يحاسب عليها الجهات التنفيذية التابعة له.
3 - معالجة كثرة ورود القضايا لأن كثرتها سبب جوهري للتسرب، وهذا قد مضى فيه مجلس القضاء الأعلى والوزارة بخطوات واسعة جدا ومثمرة لمسها الجميع من خلال لائحة التوثيق الذي يمنع الكثير من الخصومات، وكذلك نظام التنفيذ ودوائره ومكاتب الصلح، والتبليغ الإلكتروني الذي سهل تحقيق الأحكام الغيابية التي تدفع الخصوم إلى الحضور.
وأقترح إنشاء دوائر للصلح لتكون بديلا عن مكاتب الصلح لأنه من مزايا دوائر الصلح عدم ضياع الإجراءات التي تؤسس لبناء الحكم عند قاضي الموضوع إذا لم يتحقق الصلح؛ كتبليغ الخصوم وضبط القضية وقرارات الخبرة؛ ولأن تأهيل قاضي الصلح سيكون أقل تكلفة ماديا وزمنيا على ميزانية القضاء من تأهيل قاضي الموضوع، مع شق مسار مواز لإكمال تأهيل قاضي الصلح أثناء عمله.
4 - إعطاء مزيد من العناية بالجوانب المادية والمعنوية للقاضي ففيها حماية له ولاستقلاله من تسلط أهل المصالح مثل:
أ- إيجاد توازن نسبي بين المزايا المادية لمن يعمل في القضاء ومن يعمل في القطاع الخاص، وذلك بزيادة الرواتب نسبيا.
ب- إيجاد تأمين طبي متميز.
ت- تأمين سيارة لكل قاض تتناسب مع كل رتبة قضائية ويمكن أن يمتد تغييرها خمس سنوات.
ث- وضع مسار إسكاني خاص للقضاة من خلال قروض يجب سدادها فورا قبل قبول الاستقالة أو التقاعد، تكون أقساطها تصاعدية من القسط الأقل جدا إلى الأكثر فإذا أمضى 30 سنة مثلا يكون المتبقي من القرض أكثر من نصفه أو نحو من ذلك.
ج- دراسة إمكانية مشاركة القضاة في التحكيم التجاري وفق ضوابط صارمة منها: ألا يتجاوز عدد الجلسات الأسبوعية عن ثلاث ولا عدد القضايا عن ثلاث مثلا، وأن تكون مركزيةُ إحالةِ القضايا على هيئات التحكيم أو أفراده= لدى وزارة العدل بشكل آلي سري وعشوائي لكن هذه العشوائية تنتهي آخر السنة بعدالة في التوزيع؛ بحيث لا يعرف من عليه النوبة وذلك بالتنسيق مع مركز التحكيم السعودي، وآليات أخرى وإجراءات تحول دون التأثير في استقلال القضاء وتعارض المصالح في تحويل القضايا من القضاء الرسمي إلى قضاء التحكيم.
ح- إيجاد حوافز معنوية متعددة كالجواز الدبلوماسي وغيره.
5 - تطوير آلية تعيين أعوان القاضي كمدير المكتب وأمناء السر وكتاب الضبط، والموظفين، وإسناد توظيف هؤلاء وتأهيلهم إلى شركة متخصصة، وفق عقد مع الوزارة تلتزم فيه تلك الشركة بشروط الوزارة في قبولهم وفي تأمين هذه الكوادر، وفي حال عدم مناسبة أحدهم فللقاضي أن يستبدله فورا؛ فهذا أكثر مرونة وأقوى في اختيار الموارد البشرية وأسرع في الإنجاز.
وأرى أن العائد المادي على الدولة والمجتمع بمثل هذه الإجراءات سيكون أكبر مما أنفقته عليه، والقيمة الكبرى وهامش الربح الأعظم سيكون في وجود المزيد من تحقيق القضاء لمقاصده من إقامة العدل وطمأنة أصحاب رؤوس الأموال بوجود قضاء أكثر خبرة واستقرارا وإنتاجا وذلك باستمرار الاستثمار في بلدهم وإغراء رأس المال الأجنبي على الاستثمار في المملكة.
* ما هو أهم ما يحتاج إليه القاضي في الوقت الحاضر؟
- ذكرت في الجواب السابق ما يتعلق بمكتب القاضي وما يحتاجه هو من مزايا شخصية.
ويمكن أن تكون هنا إضافة وهي أن الملحوظ من سابق التجربة ونتائج الملاحظة أن الأغلب الأعظم من التعثرات القضائية عند بعض القضاة والأخطاء كانت في بداية العمل القضائي وهذا أمر عادي جدا بسبب حداثة عهده بالقضاء.
فهذه هي المشكلة، وأما آفاق الحل فهي في حفظ مهارات القضاة، وإمكانية نقلها وتيسير استرجاعها من قِبَل أي قاض في أي مكان بحيث تكون خبرة ومهارة القاضي الماهر في القضاء متوافرة للقاضي الجديد بنسبة كبيرة جدا، وأن يُبنى ذلك وفق أسس منهجية تسمى في علم الإدارة الحديث بـ«إدارة المعرفة» فهي إذن أكثر وأكبر من مجرد معلومات مخزنة في الحاسب الآلي يتيه فيها القاضي من كثرتها وتشتتها.
وقد اعتمدَتْ كثير من الدول مؤخرا هذه النظم، وصار لها كيانات تجارية متخصصة تبني نظم إدارة المعرفة على أساس من النماذج المدروسة بحيث تصنف القضية الواحدة بمجموعة من العناصر الكثيرة التي تشتمل الفقه الموضوعي والإجرائي والنظامي فإذا طلب القاضي أي قضية استطاع الوصول إليها من خلال مداخل عديدة جدا كمسرد المرافعة من الدعوى الإجابة والإقرار والإنكار والبينات والوثائق والشهادة والخبرة والتعارض والحيثيات والأدلة النصية والقواعد الأصولية والفقهية والضوابط والمواد النظامية واللوائح والتصنيف الموضوعي والكلمات المفتاحية لمحتوى هذه الأشياء.
وهذا سيوفر أيضا رافدا قويا لبناء المبادئ القضائية ومواد المدونات، ومجالا رحبا للدراسات البحثية في الجامعات ومراكز البحوث، وكذلك في إعداد الحقائب التدريبية للقضاة وفي بناء مناهج الأكاديميات القضائية المتخصصة.
* لكم بصمات وأعمال جليلة في خدمة المجتمع إضافة إلى عملكم رسمي.. كيف يمكن الاستفادة من خبراتكم وعطائكم بعد تقاعدكم من العمل الرسمي؟
- ليس لدي ما أراه بصمة أو عملا معتبرا.. لكن بلا ريب أن التقاعد لاسيما المبكر له مزايا كثيرة للقاضي وغيره، فأسأل الله تعالى أن يعينني على تحمل مسؤولية هذا الوقت المتاح بما ينفع نفعا عاما أو خاصا.
* ما القضية التي ما زالت عالقة في أذهانكم، وأثرت في نفسيتكم، ولم تغب عن مخيلتكم؟
- الغالبية العظمى من مرتكبي جرائم القتل يبدون أسفهم من فعلتهم سواء كان ذلك من ندم حقيقي أو أنه يُظهر ذلك الندم أمام القاضي لاستعطافه كما يظن كثير من المجرمين أو المتهمين أن ذلك قد ينفعهم.. لكن الحالة النادرة التي نظرتُ فيها أن شخصا قتل آخر بسبب خلاف بينهما وعند تسجيل الاعتراف وكذلك عند المحاكمة كان يعلن بكل هدوء أنه غير نادم على ذلك، ثم بعد صدور الحكم بالقصاص واكتسابه القطعية وصدور الأمر السامي بتنفيذه عفا والد القتيل لله تعالى في ساحة التنفيذ.
ومن ذلك قسوة رجل على زوجته وطفله ذي الثلاثة أيام حين خطفه منها بداية اليوم الثالث وتم تسليمه إلى والدته خلال أقل من 48 ساعة من تقدمها بالدعوى عن طريق إجراءات القضاء المستعجل، ومنها خصومة بين شقيقين دامت قريبا من عقد من الزمان وتأخر بسببها تقسيم إرث والدهما، وكان السبب سوء الأدب في الحوار بكلمة جارحة تطور إلى ملاسنات فصارت التركة بعض أدوات الحرب وحين فطنت المحكمة إلى سبب الخلاف وبعد توجيه وتذكير اصطلحا في قسمة التركة وعادا إلى الصلة مرة أخرى، ومن ذلك أن الوالدين عادة يتنازعان الحضانة إلا أنه في مرة واحدة في عمري القضائي كان لدي قضية تدافع حضانة طفل في سن السادسة أي أن الأم تقدمت بدعوى ليتسلم الأب ابنه والوالد يرفض ذلك، ولم يكن السبب عندهما أو أحدهما هو الزواج، وانتهت بإلزام الأب باستلامه.