م. بدر بن ناصر الحمدان
أكتب هذا المقال من جزيرة «جربة» القابعة على خليج قابس جنوب شرق الجمهورية التونسية في قلب البحر الأبيض المتوسط، على هامش المشاركة في ملتقى إقليمي تنظمه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الأليكسو» بهدف مناقشة التوجهات العالمية للمحافظة على ذاكرة المدن، هذه الجزيرة التي فاجأتني بتراثها المعماري والعمراني الفريد، وبنظام حياتها، ونمط التعايش بين سكانها.
تتبع جزيرة جربة إدارياً لمحافظة مدنين، وتبعد مسافة 400كم عن العاصمة تونس، في حين تبلغ مساحتها حوالي 514كم²، وتمتد شواطئها على طول 125كم، وتتميز بمشهد حضري ذي تكوينات وعناصر في غاية الثراء، بما يبرهن على أنها بُنيت بعقلية عمران «فريدة» قد تبدو متجانسة في صورتها العامة، ولكنها متباينة في تفاصيلها المحلية وحيزاتها العمرانية خاصة فيما يتعلق بترابط تجمعاتها السكانية ذات النمط المتباعد والمستقل.
الشخصية المعمارية والعمرانية للجزيرة يمكن قراءتها من خلال أربعة عوامل رئيسة انعكست وبشكل مباشر على هيكلة بنيتها العامة، وأثرت بصورة أخرى في فلسفة بنائها، حيث يبدو العامل الأول واضحاً للاستجابة الأمنية والدفاعية التي عاشتها الجزيرة عبر السنين ويظهر ذلك في تعدد القلاع والحصون والأسوار وأبراج المراقبة خاصة على الشريط الساحلي بهدف الحماية وصد الغزاة والمعتدين.
العامل الثاني جاء نتيجة للتفاعل مع المناخ العام للجزيرة والذي يغلب عليه الطقس الحار وخصائص البيئة الصحراوية وشح المياه العذبة والتربة ذات الملوحة العالية ويمكن رصد ذلك من خلال تحليل أولي لمواد البناء المستخدمة ومواقع الاستيطان وما يحيط بها من أشجار النخيل والزيتون والصبار، وكذلك طبيعة تصميم المنازل -أو ما يطلق عليها الأحواش- والتي عادة ما تتشكل من فناء داخلي وقبة رئيسة وأخرى متفرعة وتتميز بانكفاء الواجهات والنوافذ إلى الداخل بما يسمح بالتحكم بحركة الشمس واتجاه الرياح داخل التجاويف المعمارية، بالإضافة إلى الكسوة الخارجية والتي يغلب عليها اللون الأبيض والذي يكاد يكون سمة مشتركة بين مباني الجزيرة.
التنوع الثقافي والعرقي والديني والاجتماعي يمثل العامل الثالث، باعتبار تأثيره على ظهور الأنماط المختلفة من الأحياء -التي تسمى حومة أو حارة- ويتجسد أيضاً من خلال المباني الدينية ووظائفها المرتبطة بها كالمساجد أو الكنائس أو المعابد اليهودية بما يجعل من هذه الجزيرة نموذجاً للتعايش البشري، إلا أن اللافت في الأمر الانتشار الكبير للمساجد بشكل خاص وممارستها لدور الرقابة والإنذار بالإضافة إلى كونها دار عبادة، ويلاحظ أن هذه المساجد تم توزيعها على خارطة المزارع بشكل منفصل عن التجمعات الأخرى، ولا يمكن اعتبار أيّ منها مركزاً رئيساً للتجمع العمراني على مستوى المدينة -كما هو الشائع في المدن الإسلامية- وذلك لكون وزنها النسبي كوحدة عمرانية متساو إلى حد كبير. الشواطئ البكر للجزيرة وطبيعة سواحلها المؤهلة للسباحة والاستجمام جعلت منها وجهة سياحية عالمية، وهذا ما قد يمثل العامل الرابع في بناء تكوينها العمراني والوظيفي، حيث ساهم ذلك وبشكل كبير في انتشار سلسلة الفنادق العالمية وانتشار المنتجعات السياحية والمرافق المساندة، وخلق أنشطة مصاحبة كان لها بُعد آخر ظهر على هيئة إعادة توظيف مباني التراث العمراني واستثمارها كنزل ريفية سياحية، وكأماكن حاضنة لعيش تجربة الحياة الأصلية لسكان جزيرة جربة والتعريف بعاداتها وتقاليدها كجزء من التجربة السياحية.
اليوم، هذه الجزيرة على مشارف الإنصاف الدولي، كموقع تراث عالمي مرشح لقيمتها المعمارية والعمرانية الاستثنائية، وهو بلا شك أمر مستحق، لأرض متراكمة الحضارات والثقافات على مر العصور، جزيرة جربة نمط مختلف للتفاعل بين الإنسان والمكان، وحكاية لم تروَ بعد.