د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ورد في كتاب اعتمد على تقرير أصدره البنك الدولي في عام 2002م حول «بناء مجتمعات المعرفة: التحديات الجديدة التي تواجه التعليم العالي» كثير من القضايا التي تمت إثارتها فيما يتعلق بإصلاح التعليم الجامعي لدينا. بعضها نقل كما هو في الترجمة، مثل الحديث عن تحسين «جودة» التعليم quality مع التحفظ على استخدام المرادف العربي للكلمة؛ فالجودة عادة في البضائع والمنتجات، أما التعليم بمختلف مستوياته فالأمر يتعلق بـ«النهوض بالمستوى»، وليس تحسين جودته. كما يتطرق التقرير لما يسمى بـ«تحسين الجودة والاعتماد» accreditation، وكذلك التوسع في تخصيص التعليم، والاتجاه للتعليم المهني، والتركيز على الابتكار والبحث، و»الاستثمارات الاستهدافية»، وغيرها من المفاهيم.
ويتكرر في الكتاب التطرق لضرورة ملاءمة مخرجات التعليم لمتطلبات السوق، ومفاهيم التعليم عن بُعد، والجامعات المفتوحة، والجامعات الافتراضية، وإلى ذلك من العبارات البراقة ذات المحتوى الضبابي. وللتعليم حسب الكتاب أهداف ثلاثة: خفض مستوى الفقر عبر النمو الاقتصادي، خفض مستوى الفقر عبر إعادة التوزيع والتمكين وتحقيق أهداف التنمية الأساسية. وقد يتساءل البعض عن سبب التركيز على معالجة الفقر؟ والجواب هو أن السياسات والأهداف التي وردت في الكتاب قُصد بها البلدان «متدنية الدخل»، والفقيرة «المهددة بالتهميش في ظل الاقتصاد العالمي التنافسي». وهو يفرق بين البلدان المتخلفة و»البلدان المتحولة»، التي قصد بها دول أوروبا الشرقية التي تحولت من الشيوعية، وتريد اللحاق بركب الرأسمالية.
ما نراه اليوم من محاولة لنقل بعض هذه المفاهيم، والتسرع في تطبيقها على نظامنا الجامعي، قد لا يؤدي إلى النتائج المتوخاة؛ فنحن لسنا دولة فقيرة تفتقر للموارد، ولسنا دولة متحولة، ولسنا دولة صناعية ذات كثافة عمالية كبيرة، ولنا تركيبتنا الاجتماعية الخاصة، وظروفنا المتعلقة بتطورنا. وهنا أسجل ملاحظة، هي أن التعلم ممن سبقونا قد يكون مفيدًا، غير أن نقل تجاربهم جزافًا، أو البحث لديهم عن حلول جاهزة، أمر مختلف، لا يسهم في حل مشاكلنا، بل قد يفاقمها. أي إن ما نحتاج إليه هو الاستفادة من بعض مناهجهم في التعلم والتخطيط، وهذا أمر يختلف اختلافًا تامًّا عن نقل نتائج دراستهم، أو الوصفات التي يقدمونها لدول تابعة لهم، يحاولون ترسيخ التبعية لديها.
وددت لو عثرت على دراسة واحدة علمية موثقة عن مشاكل التعليم الجامعي لدينا، دراسة تم نشرها وتبادل الآراء حولها. وعندما نقول علمية وموثقة نتكلم عن دراسة تتوافر فيها المعايير العلمية الحقيقية لاكتشاف الطبيعة الحقيقية لمشاكلنا، وليس اعتماد الأساليب البلاغية، أو القص واللزق، أو النقل عن الآخرين. ولو اتبعنا هذا الأسلوب لعرفنا أن الوصول لحقائق واقعنا التعليمي أسهل بكثير من أساليب الاستنساخ والاستلزاق.
مشاكل التعليم لدينا ليست معقدة، وأحيانًا هي واضحة ومتجلية. ولكن إيجاد حلول لها يصطدم ببعض العقبات، منها: صعوبة اختيار الكوادر المخلصة القادرة على إيجاد الحلول الناجعة، أو وجود مصالح أخرى تستوجب لدى البعض استمرار الصعوبات وطلسمتها؛ لأنه خطط لنفسه صلاحيات معينها بناء عليها. فعندما تقبل جامعة ما أضعاف قدرتها الاستيعابية المفترضة فلا نحتاج للبنك الدولي ليشخص لنا المشكلة. وعندما يتقرفص الطلاب في دهاليز الجامعة لضيق القاعات فلنقرأ على «جودة» التعليم السلام. وعندما يكون عمل بعض أعضاء هيئة التدريس مجرد سد للفراغ ولا أحد يعرف ما يدرس؟ كيف يدرس؟ أو هل يدرس أصلاً؟ فلن يستطيع البحث ولا مواكبة الجديد في مجاله.
والأمر لا يتعلق بالأستاذ الجامعي فقط بل بالطالب، الذي هو عنصر مهم في النهوض بالتعليم الجامعي؛ فلا يقل دوره في ذلك عن عضو هيئة التدريس. فكثير من الطلاب يدرسون في تخصصات لا يرغبون فيها، وتم توجيههم لها عبر وسائل الفرز الإلكتروني التي تعتمد على اختبارات القياس، وهي ذاتها اختبارات لم تتعرض لاختبار قياس قط. فالجامعات تنظر لها على أنها اختبارات علمية غير قابلة للمراجعة أو الشك، وهذا في صلبه منافٍ للأسلوب العلمي. الأستاذ الجامعي غير المكترث بالعطاء، والطالب غير المهتم بالتحصيل، يدفعان تعليمنا الجامعي ليراوح مكانه، حتى يحس من يسيء الظن بأن هناك مؤامرة بين الاثنين.
وقد لا يخفى على أحد من الوسط الجامعي عقم أساليب التعيينات الإدارية، واستغلال البعض مراكزهم الإدارية بشكل مخجل لتعظيم مصالحهم الشخصية حتى ولو أدى ذلك لتدمير مخرجات أقسامهم. فالمركزية في القرار، والترهل في الأجهزة الإدارية، والتحيزات الفردية هي آفات التعليم في كل العصور، بما في ذلك عصر ما قبل العولمة، وما بعد العولمة، ومعها لا ينفع لا تحسين جودة ولا شهادات اعتماد.