عبدالعزيز السماري
كان إعلان التحول الصحي نحو رؤية 2030 نقطة تحول نحو التفكير بصوت عال عن الرعاية الصحية، فصاحب القرار يدرك جيداً الحاجة إلى التغيير، وواكب ذلك ورش عمل ومحاضرات وخروج إستراتيجية للتحول الصحي، وكنت وما زلت أحد المتفائلين بخروج الصحة من الثوب القديم من أجل مواكبة التطور إدارياً، وأقول إدارياً لأن المملكة تعتبر رائدة بدون مجاملة في مجال إنتاج الكوادر الصحية في العالم، إن لم تكن قصة نجاح فريدة من نوعها خارج دول العالم الأول، وهذه أحد المكاسب الحقيقية، التي لا يجب أن نفرط فيها، بل نعيد إنتاجها في مجالات أخرى..
لكن منذ بدأ الحديث عن إستراتيجية التحول الصحي، ومختلف العاملين في القطاعات الصحية في حالة إنصات لما سيؤول إليه التنظيم الصحي الجديد، وكان الحديث عنها يتوقف عند باب التفاصيل، فالمحاضر يتحدث عن خطوط عامة وعريضة عن أهمية التحول الصحي، لكن عندما يبدأ يدخل في تناول التفاصيل تبدأ علامات الاستفهام، فالجواب يصل في كثير من الأحيان إلى لا أعلم، وقد لا يتجاوزها.
ما زال الحديث عن أهمية التغيير مستمراً، لكن الثوب القديم والتضخم الإداري، وكثرة دخول الأطباء الممارسين لمجال الإدارة لم يتوقف منذ الإعلان، بل أصبح ظاهرة لافتة للنظر، وطريقة غير مباشرة لمكافأة الممارس الصحي، بينما توقع الجميع أن تكون الإنتاجية والإخلاص في العمل وتقديم الخدمة للجميع هي المقياس، ولذلك لم يتغير شيء في المنظومة الصحية، بل زادت نسبة الإداري الطبيب إلى الطبيب الممارس أكثر من العقد الماضي.
لا توجد إحصاءات عن تكاليف التضخم الإداري في المملكة، لكنها ظاهرة تمت دراستها في الولايات المتحدة الأمريكية، فمساهمة التكاليف الإدارية في الإنفاق العام على الرعاية الصحية كبيرة ومتنامية، وتشير أحد التقديرات المذكورة بشدة إلى أن التكاليف الإدارية تصل إلى حوالي 30 % من إجمالي نفقات الرعاية الصحية، بينما لا يوجد أثر لهذه الظاهرة في النظام الكندي الصحي، فالإنتاجية هي المقياس، وليس تعدد طبقات الإدارة.
باستخدام بيانات من عامي 2010 و2011، قارنت إحدى الدراسات التي نشرت في مجلة Health Affairs التكاليف الإدارية للمستشفيات في الولايات المتحدة مع تلك الموجودة في سبعة أماكن أخرى: كندا وإنجلترا واسكتلندا وويلز وفرنسا وألمانيا وهولندا، ونتج عنها إن التكاليف الإدارية للمستشفيات الأمريكية تتجاوز تلك الخاصة بجميع الأماكن الأخرى، بينما احتلت هولندا المرتبة الثانية في التكاليف الإدارية للمستشفيات: 20 في المائة تقريبًا من الإنفاق على المستشفيات.
أدعو لدراسة علمية شفافه لتقييم التكاليف الإدارية في المستشفيات، وفي وزارة الصحة السعودية، فمفتاح التحول الإستراتيجي يبدأ من هنا هذا المدخل، فالمستشفى السعودي وخاصة الكبرى منها متضخمة إدارياً لدرجة عالية، وتعتبر مصدر إنفاق عال للتكاليف غير الصحية في المستشفيات، وما لم نبدأ النظر برؤية لهذه الزاوية لن نصل إلى تحقيق الرؤية المرجوة.
لا تحتاج الإنتاجية في المستشفيات إلي جيش من الإداريين الأطباء وغير الأطباء، ولكن إلى برامج متطورة ترصد عمل كل طبيب، وهو أهم هدف في مجال التطور والتحول الصحي، وتخفيض التضخم الإداري وإعادة الأطباء إلى عيادتهم للعمل سيكون أهم هدف لتحقيق الرؤية، فما يحدث الآن يتجه في مسار مغاير للإستراتيجية المعلنة، التي لا تحتوي ضمن أهدافها مهمة تخفيض فاتورة التضخم الإداري.
بينما لا يستغرق الأمر سوى نظرة تفصيلية على فاتورة المستشفى للتعرف على اللغز المحير لارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، فالتضخم في الفاتورة لا يقتصر فقط على التكلفة الصحية، ولكن يأتي مع تكاليف إدارية مخفية إلى حد كبير عن الأنظار، ونظرًا لعدم ارتباطها بشكل مباشر برعاية المرضى، نادراً ما نفكر في التكاليف الإدارية.. إنها عالية جداً ومكلفة، وتبدأ منها أول مراحل نجاح إستراتيجية التحول الصحي.