د. حمزة السالم
إن مثل الاقتصاد في شكليه الرئيسين، الإقطاعي الدّخْلي أو الرأسمالي الصناعي، كمثل الحكم والسياسة. فكما أنه لا تستقيم أمور المجتمع والدولة إذا كان كل المجتمع أو غالبه حكامًا أو سياسيين فتُوزع على أفراد المجتمع مقاليد قرارات السُلطة، فكذلك لا يصلح أن يملك غالب المجتمع غالب الثروة فتتوزع على أفراده ثروات المجتمع. فبما أن توزيع السلطة على أفراد كُثر يفسد ديناميكيتها، فكذلك هو الحال في الاقتصاد.
والقدرة على تشكيل الثروات موهبة يرزقها الله من يشاء، تمامًا كموهبة القدرة على إدارة السلطة والحكم. فما يجري في السلطة والحكم من سنن الله، يجري كذلك في الثروة. ولذا؛ ترى أبناء الغني الواحد تفترق أحوالهم بعد موته، فمنهم من يزداد ثراء ومنهم من يفتقر.
فالرؤية الاقتصادية لامتلاك القلة للثروة تنظر له على أنه وضع من باب الاحتكار الطبيعي. فلا يقول عاقل بأن يُعطى كل فرد من أفراد المجتمع ملكية إنتاجية، دون دفع ثمنها، فهذا تدمير كامل للاقتصاد. فالطبيعة الإنسانية ستمنع العامل من العمل الإنتاجي إذا ملك واغتنى دون بذل الجهد. كما أنها ستمنع المنافسة على تنمية الثروة من الفئة القادرة على تكوين الثروات.
فمثلاً، لو قُسمت مزارع البقر الحلوب إلى وحدات صغيرة على مجموعة مُلاك لقل الإنتاج ولتعاظمت الكلفة، وهذا ثابت في التحليل الرياضي الاقتصادي الجزئي. وأما شاهد ذلك من الواقع فهو: تجربة توزيع المزارع على الفلاحين في الثورات الاشتراكية، التي أضرت بالإنتاج كثيرًا. ومن الشواهد أيضًا: أن تقسيم بعض الشركات الصناعية المعتمدة في تطورها على البحث والتطوير، يكون سببًا في تقلص إمكاناتها، وبالتالي تطور التقنية، كشركة التلفونات الأمريكية «إى تي إن تي»، حين ألزمها القضاء بتصغير حجمها من وحدة إنتاجية واحدة إلى وحدتين إنتاجيتين. وقد تعلم المشرعون الأمريكيون الدرس، فربحت مايكروسوفت قضية الاحتكار التي قدمت ضدها بغرض تفتيت الشركة وتقسيمها.
ففي الاقتصاد الصناعي فإن حقيقة هذه الفئة القليلة من أفراد المجتمع التي تملك الثروة، ما هي إلا مجرد مديرين للثروة يديرونها لتنميتها. وفي تنميتها تنمية لاقتصاد المجتمع. وهذه الفئة المالكة للثروة هي التي تتحمل الإنفاق الحكومي على الخدمات والضرائب. أكان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر. فالضريبة على دخل العامل، إنما يتحمله المنتج في الواقع لا العامل، فالرواتب تُحسب على أساس الضرائب.
وأما حتمية تمركز الثروة في الاقتصاد الدَّخلي، فذلك لأن تفرقته تَرفع الكلفة الإنتاجية وتُنقص الإنتاج. وبما أن الاقتصاد الدَّخلي -كما بينا سابقًا- لا ينمو ولا يتطور بمقدار نمو عدد أفراد المجتمع، فتركز الثروة عند القلة من باب أولى، لاستحالة توفير الموارد الاقتصادية الترفيهية للاستهلاك العظيم. ذلك أن محدوديتها، سترجع على أسعار هذه المواد، فتخلق هذه الديناميكية طبقة قليلة من ملاك ثروة، والتغيير لا يكون إلا اسميًا في الأسعار، لا حقيقيًا في حصول الأغلبية على مستوى الرفاهية.
وهذه الحقيقة الاقتصادية، لا تجد قبولاً عند غالب الطبقة الاستهلاكية، لذا يسهل نشر أساطير توزيع الثروة بين المجتمع، بينما يصعب إقناعهم بالحتمية الموجعة القائمة منذ أن قامت المجتمعات. بديناميكية عمل السوق على سنة الله.