هل في التراث (السروي/ الجبلي) ما يستحق البحث أو البعث، أو ما يشار إليه بالبنان سواء أكان أثراً متصلاً بمنحوتات قديمة أو تهاويل مرسومة أو معابد أو ما يجري هذا المجرى، لا بد أن ثمة الكثير من الآثار التي تشفّ عن ماضٍ يزدان بالعراقة وحسن الأحدوثة، ولكن هذا كله يحتاج إلى جهود عظيمة من البحث والتنقيب ينبري لها خبراء في هذا المجال يباشرون الاشتغال على ما عساه يهدي إلى اكتشافات أثرية (اركيولوجية) تثري تاريخ المنطقة وتجلو غوامض آثارها وتنشر مطويات صحائفها الغابرة.
ذلك من جهة ومن جهة أخرى فمن المعروف أن الجزيرة العربية رزحت قبل توحيدها المجيد في فاقة وعُسر قروناً طويلة، ورانت عليها جهالة عميمة أثقلت بوطأتها الغليظة على نفوس أبنائها وأدّت إلى انسداد عام وعزلة تأخذ بالمخنق، ولم تكن السراة بجبالها الشاهقة جنوباً وسكانها الأقحاح ببعيدة عن هذه الدوامة الحزينة والبؤس الموجِع، فهي ليست بدعاً وإنما جزء من كل، فقد كان الجهل في الناس فاشياً، وهذا شيء من البداهة بحيث لا يخفى، وقد سُقناه تمهيداً لموضوع وجيز لا نتناول فيه انعكاس هذا الجهل على المجتمع، بل لنحاول أن نتلمس قبسات من نور تلمع في دياجير تلك الظلمة، ولتقرير حقيقة تؤكد أن ضروب الجهل تختلف، فالجهل البسيط الذي كان عليه أسلافنا في تلك الأيام هو أهون كثيراً وهو أطوع للمعالجة من الجهل المركّب الذي يلتحف عقول بعض المتزمّتين الملتزمين بالقيود والذين يخالون أنهم علماء بينما هم يخوضون في بحار الجهل الكثيفة.
إننا نجد في ذلك الجهل البسيط دماثة وأريحية وأصالة يستمدها أولئك الأسلاف البررة من تقاليد عربية عريقة تتمثل فيها أسمى القيم الجميلة، ومن تلك القيم ما يتصل بالمرأة ومدى تكاملها مع الرجل زوجاً كان أو أخاً أو أباً أو حتى من أفراد العشيرة، ونسرد هنا حكاية تنطوي على مغزى عميق وفحواها أن امرأة مات عنها بعلها وتأثرت بموته أشد التأثر، وفي منامها رأت هذا الزوج في قبره في حالة يرثى لها وسألته عن حاله فأجاب ببيتين من الشعر
هنيْكم يا أهل الرياحيْـن ...... يا شاربين الما في بارد الفيّه
وان سلتنا ياالزين فايْنا مساديح .... وأي بيتنا ظلمى والدود به ليّه (تخفيف الجيم لـ ياء)
والبيتين تنتمي إلى إحدى لهجات الجنوب الضاربة في القدم، وقد تستعصي على الفهم، وقد لا تسْلم من الركاكة، ولذا عالجنا صياغتها بالفصحى لتقريب المعنى:
بالنسيم العذب هنيئاً لكم ... تشربون الماء في الظل الظليل
تسأل الحسناء ما أحوالكم ... حالنا ضنك ومأوانا ذليل
تمرح الديدان في أجداثنا .... ظلمة القبر وفقدان الحليل
إن تلك الأبيات القليلة تثير الدهش وتغري بالتأمل، إنها مفعمة بالحكمة الحكيمة وسداد التوجّه ونفاذ البصيرة، فقد ينظر القارئ إلى تلك المعاني نظرة تحمل قدراً من الاستخفاف والاستهانة على اعتبار أن قائلها لا يمثل سوى نسيجاً اجتماعياً جاهلياً وممعناً في السذاجة والبساطة، ولذا فلا تستحق تلك المعاني أي اعتبار يذكر، خاصة وهي معاني مطروقة لا جدة فيها ولا اختراع، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فإن تلك السذاجة لذيذة حقاً، بما تحتويه من معان تتدفق حكمة وجلالا، فقيمتها تتجلى في هذه البراءة الرقيقة والطهارة المونقة التي لا تكلّف فيها والتي تشيع في أجوائها فتزيدها روعة وإمتاعاً، وهي إن جنحت للتشاؤم والحلوكة بتصويرها القبر وظلماته وتعاسة من يحتويه من الأناسيّ التي تحولت إلى هياكل ينخرها الدود ويسرح في جنباتها فليس يعني ذلك موقفاً فلسفياً ناضجاً له أسس ودعائم بقدر ما يعني فلسفة سهلة نقية تستدعي النسق التاريخي الاجتماعي بكل أبعاده، بما في ذلك المقابر الجماعية (السقيّة)، فكان الناظر يشاهد ما تحتويه تلك الأضرحة البسيطة وقد يتجرأ وينظر خلالها فيرى الهياكل المسحوقة والأجداث بحقيقتها العارية فينكفئ أو ينكص أو يملأه الرعب فيطلق ساقيه للريح!! والمهم هو تمازج الحياة بالموت في إيقاع الحياة البسيط.. ثم هو يرسم في ذهنه صورة فلسفية مأنوسة محسوسة يمدّها بمخياله الطليق ويمزجها بما رأى من صور الرفات التي لا تبارح ذاكرته، ويخلق بهذا رؤية واضحة أو غائمة لما عسى أن تكون عليه حياة البرزخ ليس وفق تراثه الذي وصل إليه فقط وإنما وفق مشاهداته العجيبة التي تتسرب في طوايا عقله فـ تنتج وتتوّج فكرته النهائية عما مضى منها وما يتوقع.
ثم هناك محور آخر يستوقف الانتباه ويستحث الإعجاب، بل ويثير العطف والمودة أيضاً، وهو زبدة الحديث وصفوة فحواه إنه (الحب) العميق الذي تكنه تلك الزوجة الفذّة لزوجها الراحل، فهي تحلم به، لا عفوا فيما يبدو وإنما لطول ادّكارها وعمق ألمها وانسحاق روحها، ولفرط أشجانها الكامنة في سويداء قل بها يفيض هذا من الحقيقة إلى الحلم، فالحقيقة تقول إن زوجها مات وشبع موتاً، ولكن الحلم يتعصّى على تلك الحقيقة ويأبى قبولها فيبعث الزوج حياً يُرزق وإن كان في حال يُرثى لها، وهنا يلتبس الحلم الحقيقة وتلتبس الحقيقة الحلم، ليتجلى هذا المظهر الباعث على الرثاء وعلى التنغيص أيضاً، ويظهر أن زوجها كان يتغزل بها ويتلطف معها ويتشبب بحُسنها في حياته، وكل هذا لم يذهب عبثاً، فقد خامر إطراؤه وإعجابه روحها، وضرب على وتر وجودها، و(نكش) صميم أنوثتها - إن صح هذا التعبير! وتمخضت عنه تلك الرؤيا العجيبة، فهي (الزين) واسم (زيْنة) أشيْع في المنطقة مما عداها، إن الأسماء عموماً منحوتة من البيئة، والبيئة هنا مترعة بالخير ورزقها موفور والنسوة عزيزات كريمات، وجميلات جمالاً قروياً أصيلاً لا يستمد حلاوته من الشكل وحسب، وإنما من تحنان الكلام البريء والمساهمة في العمل والقيام بالواجب كما ينبغي.
ولابد أن تلك الحليلة التي بعثت بعلها من مرقده وساءلته (وهنا محك الحكاية وذروة عقدتها) كانت متوجعة توجعاً حقيقياً لهذا الفقد والترمل، ومحزونة لمصير بعلها الذي يتمنى ولو شربة ماء تحت دوحة ظليلة ونسيم عليل، وليس الهدف هنا هو تحليل بيت شعر! ولكنما الهدف هو الغوص في عمق الأصالة القروية بأريحيتها التي لم تحجبها القرون المظلمة عن إضفاء روحها الدمثة الحلوة والتي تتمتع بحس إنساني مرهف رهافة تأخذ بالألباب! فإن مثل تلك الأقاصيص مهما انطوت على بساطة تشكل رافداً حقيقياً لا مجازياً من روافد الإرث السروي أو (الجبلي) وهو تراث غني وحافل بالآيات العجيبة التي تشهد بمدى عظمة هذا الإنسان، وأن عيوبه أنه تخلّى أو سها عن كتابة تاريخه وحفظ ميراثه، رغم ما يحمل هذا الميراث من لآلئ ودرر تُشيد بروعة الأجداد وسمو أخلاقهم وتعاليهم على المساءات وفوق ذلك تعاملهم مع المرأة لا بصفتها جنساً أدنى وإنما بكونها شطراً يكمل الآخر ويترع الحياة بألوان جديدة ذات روائح تعبق بالأريج والريحان.