د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تعتمد علاقتنا بالآخر إلى حد كبير بالصورة التي تكونت في ذهن الآخر عنا. وهذه الصورة أشبه بالصخور الرسوبية حيث تتراكم فيها طبقات وأطياف مختلفة عبر العصور. وتشكل هذه الصورة أيضًا رؤيتنا لأنفسنا لأن الآخر كالمرآة التي تعكس لهذه الصورة ولأننا لا نستطيع أن نرى أنفسنا من الخارج بدونها. والآخر، الذي يشاركنا الوجود في هذا العالم يرى نفسه من خلالنا ومن خلال غيرنا وهلم جرا. ولا شك أن لكل ثقافة أبعادًا خاصة ورؤية ذهنية محددة تقبع في لا شعورها وتحدد تصوراتها للعالم الخارجي من حولها. فثقافات العالم تتشابه، وتختلف، وتتقاطع حسب ظروفها التاريخية، على اعتبار أن المعتقدات الدينية، والحروب، والإنجازات الحضارية جزء من هذا التاريخ. وفي القرنين الماضيين، تداخلت الثقافات بشكل كبير غير متساو نتيجة للفوارق المادية الكبيرة بينما يسمى بالشمال والجنوب. شمال قوي مستعمر مهيمن، وجنوب يطمح بالتخلص من هذه الهيمنة التي ألبسها البعض لباسًا عرقيًّا.
ولذا، وهذا رأي بعض علماء الأنثربولوجيا أيضًا، نحن محكومون بخصوصية ثقافية تشكل البعد الذي ننظر به للعالم، فلكل ثقافة بعد ثقافي ترى من خلاله العالم وترى من خلاله أيضًا الثقافات الأخرى. وقد أثبتت الدراسات صعوبة تمثيل المكونات اللغوية، والصور الذهنية لثقافة ما لثقافة أخرى بعيدة عنها جغرافيًا ومختلفة عنها تاريخيا، بالرغم من محاولة الدول المهيمنة خلق صورة واحدة للعالم لدى جميع الثقافات. والنتيجة هي بروز ثقافة عالمية مهيمنة ظاهريًا تتعايش مع الثقافات المحلية الكامنة، وظهور ثقافات هجينة هي خليط من الاثنين. أي أن مجتمعات العالم الثالث تعيش حالات ازدواجية ثقافية ولغوية تعيق تطورها، بينما مجتمعات الدول المتقدمة تتمتع يتجانس ثقافي أكبر حتى في ظل أقليات عرقية فيها نتيجة لضغوط الاندماجية الكبيرة، وعكس ذلك الأقليات الغربية التي بقيت لسنوات طويلة في مجتمعات الدول الفقيرة ولم تر ضرورة للاندماج.
فهم الآليات الثقافية والأبعاد الفكرية ضرورة من ضرورات العمل الإعلامي، والعلاقات العامة الخارجية مع الدول الأخرى. ولكن وللأسف انتشرت شركات إعلامية، وشركات علاقات عامة روجت لنفسها على أنها عالمية قادرة على خدمة بعض الدول في تحسين صورتها في مجتمعات الدول المؤثرة، أي أنها قادرة على تقديم صور ثقافات هذه الدول في قوالب ثقافية مرتبطة بثقافات مغايرة. والنتيجة بالطبع إما صور هجينة مشوهة، أو صور غريبة غير مقنعة. فلو أخذنا النظم العدلية كمثال، فنظام العدل الإسلامي يختلف شكلاً ومفهومًا عن النظام العدلي الغربي، ولكل ثقافة تصورها للعدالة رغم أن جميع الثقافات تسعى للعدالة التي هي مفهوم نسبي نوعًا ما، ولكن الغرب نجح في فرض بعض قيمه العدلية على أنها قيم عدلية كونية، فالمسلم مثلاً لا يمكن أن يتفهم لما تأخذ الزوجة نصف ثروة زوجها في حالة الطلاق، وطبق هذا المفهوم العدلي الغربي على كثير من المسلمين في الغرب بقوة القانون. والغربي مثلاً لا يستطيع تفهم أن المسلم قد يطلق زوجته بثلاث كلمات في طلاق ناجز.
والأمر ذاته ينطبق على أمور ثقافية وإعلامية أخرى، فعندما طلب من الفنان الإيطالي الكبير فيكاري، رسم لوحات لقاعات الملك فيصل للمؤتمرات، رسم الكعبة والطواف بتقنيات رائعة، لكنه رسم الطائفين يسيرون في عكس الاتجاه المعتاد في الطواف. وقد وصلني كتاب جميل جدًا عن الخيول في المملكة اسمه «ليقاسي»، أي إرث المملكة العربية السعودية، والصور ألتقطها مصور إيطالي اسمه «جي جي قراسو» في مواضع مختلفة وفي مواقع يبدو أنه تم اختيارها بعناية، غير أن بعض هذه الصور بنيت على تصورات غربية عن ثقافتنا، وليس عن تصورنا نحن. فبعض الصور ذات بعد استشراقي بحت، وتعرض شخوص سمراء تمسك برسن هذه الخيول، والبعض الآخر لنساء منقبات يمسكن برسن الخيل في تناقض صارخ بين استسلام المرأة وجموح الخيل. وكثير من الصور صورت الخيل في حالة جموح جماعي أشبه بصور الخيول في الغرب المتوحش. فنحن هنا أمام تقنيات فنية عالية ولكن بأبعاد ثقافية مختلفة. وذات مرة اطلعت على كتاب باللغة الإنجليزية عن الخيول العربية حرره مجموعة من الأساتذة السعوديين ومعهم كاتب هندي، وذهلت لادعاء الفصل الأول من الكتاب أن أصول الخيول العربية هندية!! و نبهت من أحضر لي الكتاب عن ذلك. خلاصة القول إنه في بعض المجالات الثقافية والإعلامية الأفضل دومًا الاعتماد على القدرات المحلية، أرخص وأجدى.