د.ثريا العريض
في أسبوع واحد التقيت بشوق بجيران طفولتي أمينة مفيز وفوزية السحيمي وزوجها سليمان القاضي وفوزية الزامل؛ 4 من جيران الحي الذي عشت فيه طفولتي المبكرة في البحرين. كان معظم جيراننا من الذين ارتحلوا عبر الخليج إلى البحرين واستقروا فيها لينعموا بميزات تقدمها الحضاري. أذكر بوضوح مواقع بيوت جيراننا عائلات «القاضي» و«القصيبي» و«السحيمي» و«العجاجي» و«العوجان» و«الضبيب» و«بوحيمد» و«السويلم» و«البسام» و«الزامل» و«المبارك»، حتى وقد اختفت معالم مبانيها القديمة من الخارطة اليوم. وما زال الشعور بأن هناك رابطًا حميميًّا يربط «النجادة» البحرينيين. حيث شمل اللقب حتى من جاءوا من الأحساء القريبة.
تتنامى العلاقات الحميمة بين المغتربين لتظل تجمعهم مع مواطنيهم في تجمعات مثل «الزبيرية» و«العقيلات» الذين ارتحلوا إلى الشام والعراق والهند؛ وأتصور ارتباطا مماثلا لمهاجري الحضارم إذ أسسوا لامتداد عائلات تجارة محترمة الثقل في ماليزيا وإندونيسيا وشمال الجزيرة، و«الهولة» أي العرب الذين استقروا لحين في الشاطئ الشرقي للخليج على الأراضي الفارسية قبل أن يعودوا إلى الخليج والجزيرة حتى شاطئ البحر الأحمر في جدة. ثم في مقابل ذلك مفارقة أن العنصرية والقبلية والطائفية والمذهبية ما زالت تعيث بمحاولات تجذير الانتماء إلى الوطن الأكبر هنا بأرض الجزيرة الأصل، وتعيق تنامي الشعور بالمواطنة فوق الحد الأدنى المتمثل في المطالبة بتميزاتها وخدماتها، فتعطي المترصدين بنا فرصة إضعافنا بتصديع اللحمة وزرع التنافر والصراعات.
في الغربة خارج الديار نتذكر ما يجمعنا ونتقارب. وداخل الديار تتضخم الاختلافات ما بيننا لتطفو تباعداتنا الخصوصية الطابع.
وفي الإطار الأوسع عربيًّا: في مرحلة الصبا والغربة في الجامعات وتزاحم الطلبة العرب الخارج يجد الشباب أنفسهم مجتمعًا واحدًا وينسون فروقات الحدود السياسية. فلا يستغرب أحد أن يختار السعودي عمانية أو بحرانية أو يتزوج اللبناني جزائرية حين يلتقون في أمريكا أو فرنسا.
وقتها نتقارب عربا بل ومسلمين بكل سحناتنا ولغاتنا إذا عزت الكثافة العربية.. سرعان ما نتجمع لنمارس أعرافنا وطقوسنا وصلاتنا وصيامنا واحتفالاتنا بالعيد بل ونتواصل مع الطلبة الآخرين في الجامعات القريبة منا غير مبالين باختلاف اللهجات ولا المذاهب.
كنا خير سفراء لمجتمعنا العربي والإسلامي نتقارب بقدر ما نشعر بالغربة. ونمد أيدينا لمصافحة الغير وتعريفهم بأنفسنا دون أن نشعر بالدونية. ونقدّر من يمد لنا ابتسامة تقبل ومصافحة صداقة. وكثيرا ما يتشجع الآخرون من غير العرب ليتعرفوا على أسلوبنا المجتمعي الطيب ويمسون معجبين بإيجابياته.
وبعد التخرج والعودة تظل تلك الأواصر والوشائج إلى حين، ثم غالبًا تضعف وتبهت حين نعود لأحضان الأقربين. تدريجيا نفقد الرغبة في التواصل مع الآخرين وتعريفهم بالجوانب الجميلة من أنفسنا. ننسى كيف كان شعورنا ونحن نعاني الغربة. ننسى اشتياقنا إلى دفء العلاقات الإنسانية.
الآن أسمع تعليقات العاملين عندنا بعد سنوات من العيش معنا: أنتم شعب منغلق على نفسه.
وأقول: «منغلقون» صفة تعمل اليوم في غير صالحنا؛ فبينما تشهر أبواق التشهير بسوءاتنا من كل جانب، نفقد فرصًا رائعة نبرز فيها تميّز انتمائنا حين نمنع الغير فرصة التعرف والحكم على حقيقة جوهرنا الطيب.