يوسف المحيميد
كلما كبرنا أكثر، وتقدم بنا العمر، مات أصدقاؤنا، وتعاظمت وحشتنا، كان أبي- يرحمه الله- يقول لي: لقد مات فلان، لم يبقَ إلا فلان وأنا، كان يتحدث عن الموت كزائر ليل لم يأتِ بعد، لكن الأيام تمضي، وينسى أبي من مات من أصدقائه ومعارفه، ويسلو مجددًا في الحياة، إلى درجة أن ينسى، إذا جاء ذكر رفيقه، ما إذا كان مات أم ليس بعد... هكذا كانت الذاكرة بسيطة ومسطحة لمن جاء قبل الجيل الرقمي العجيب، الذي يستطيع أن يمتلك ذاكرة فولاذية، بجهاز صغير ومخيف اسمه الهاتف الذكي!
كم رحل من أصدقائي الكتَّاب، وكم سهوت عن ذكرهم، وانهمكت في الحياة، بل انكببتُ عليها، لكنني في لحظة بحث عن رقم في ذاكرة الهاتف، أو في ذاكرة الرسائل، أو صفحات التواصل الاجتماعي، أتعثر بهم، بأرقامهم، برسائلهم الخاصة، بأحلامهم وخيباتهم، بنكاتهم وسخريتهم، كأنهم هنا، كأنهم ما رحلوا بكل ما فيهم من طيبة، ومن شغب، وما في ملامح شخصياتهم القلقة من تناقضات وأسرار وخبايا.
هذه الأجهزة الذكية سهَّلت حياتنا وعقدتها في الوقت ذاته، أصبحت الحياة ميسرة بفضلها، لكنها معقدة من جهة أخرى، إحساسنا تغيَّر تجاه الأشياء والكائنات، لم تعد الحياة كما كانت، حين نتوقف صدفةً أمام هاتف ثابت ذي قرص دائري في مطعم، موضوع كتحفة، أو قطعة تراثية، تصيبنا الدهشة ونتساءل أي حياة مرت بهذا الجهاز الساحر في وقته، أي أصابع نحيلة همزت قرصه الشفاف، وأي صوت تسلل عبر الأسلاك، وأي آهات، وأخبار، وحوادث، كيف عبرت الحياة بسرعة هكذا؟ وماذا ستقول الأجيال القادمة حينما يصبح العصر الرقمي مجرد ماض؟ ماذا سيبقى في الذاكرة؟
هي الذاكرة إذن، ذاكرة الجيل الذي جاء مع المطبعة، كي توثق تاريخه وتفاصيله، وجيل الثورة الصناعية، وجيل الرقمنة، وهكذا، لتبقى ذاكرة الإنسان تتباين وتختلف تبعاً لعصرها.