د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
* لم يكن صاحبكم قادرًا على تفسير رسالته الأخيرة التي تواصلا بها قبل أيام؛ فقد بدت أشبه برثاء نفسٍ ارتبطت بعطاء معرفي وإنسانيّ وعزَّ عليها أن تفقده، أو كأنه أحسَّ أن قلمَه ليس ما اعتاده وذهنَه غير ما روّضه وبحثَه تراجع عما عهده، وهو إحساسُ ذاتٍ راقيةٍ ترقي الوهنَ ولا تُسترق له، والحكاية تبتدئُ من ثلاث رسائل متبادلة بين أبي طلال وصاحبكم من موقعيهما خارج الوطن خلال شهر ذي القعدة 1440هـ- يوليو «تموز» 2019م ـ، وجاء نص الرسالة الأولى من باريس في 2019/07/17م:
أخي أبا يزن
(طاب مساؤكم، طُلب مني إعداد بحث عن الإعلام»...» وبعثته بأمل تفضلك بالاطلاع عليه واقتراح المفردات التي تحتاج إلى تعميق بمزيد من التحليل، شاكرًا).
وكانت إجابة صاحبكم امتنانًا لثقته» المتجددة»؛ فقد تشرف بمراجعة معظم تآليفه وأوراقه وبحوثه فأضافت إليه ولم يُضف إليها، وبعث إليه في اليوم التالي 2019/70/18م ردًا جاء فيه:
* (أستاذي وصديقي أبا طلال:
أسعد الله يومك..
(بحث مكتمل لم أجد فيه ما أستطيع أن أُكمله أو أُلاحظه، ومن باب ألا تعود رسالتي خفيفة أرفقها بما يلي: «....»).
وقد كتب أبو طلال في اليوم نفسه:
«... شكرًا لمطالعتك وتدقيقك، وهل ترى في بعض فقراته مجالًا للتحليل أو للتعميق؛ فالجهة التي طلبته ترغب في إطالته إذا كانت ممكنة؟ مقدِّرًأ».
فكان رد صاحبكم في اليوم التالي 2019/07/20م:
«العفو وفي الخدمة؛ زادك الله عطاءً وتميزًا، عدت للبحث ثانية، ولو شئتَ تقسيمه بهدف توازن مفردات موضوعاته لوجدت ما يلي: «....» إلخ).
ووصل ردُّ د. عبدالرحمن «الواتسيُّ» الأخير:
(أبا يزن:
قدمتَ أفكارًا عميقة، هي ما أردتُ لتعزيز التحليل الوارد في النص التأريخي. سلم فكرُك، ودمت ملجأً صافي الذهن كلما أصاب صاحبَك العجزُ والخمول..).
(2)
* كان البحث ضافيًا مضيئًا لم يعتورْه نقصٌ ولا دقة ولا مرجعية، ولكنها عادته في الحرص على ظهور كتاباته مكتملةً بشكلها ومحتواها، كما هو دأبه في تقديره جهود غيره وامتنانِه لكل من يعرفه فيألفه، ولم يكن أبو طلال ليشير إلى عجز أو خمول قبل هذه الرسالة الخاصة؛ فطيلة تعاملهما على مدى ربع قرن منذ أن اقترب منه حين تولى د. عبدالرحمن رياسة مجلس إدارة مؤسسة الجزيرة وتوثقت بعد ترجله منها، وأبو طلال سعيدٌ بمنجزاته، منتظمٌ فيها، لا يمل العمل ولا يأذن للخلل ولا للكسل، وبالرغم - مما تعرض له من انتكاسة صحية - فقد خرج منها صلبًا مواصلًا متحاملًا على بدنه وذهنه بل مبالغًا فيها بما أقلق ذويه ومحبيه، وكنا نشفق عليه من إرهاقٍ يضني قلبه المكدود مجاملةً لصديق أو تلبيةً لواجبٍ، بل إنه في الأسابيع القريبة قبل إجازته الصيفية زار ثلاث مناطق داخلية خلال أقلَّ من أسبوع، ولم تكن بينها رحلةُ عمل، وفي يوم مغادرته إلى فرنسا ذهب إلى عنيزة لعيادة مريض، وعاد من مطار القصيم مباشرة إلى مطار الملك خالد، وقبل ذلك التقيا في زيارة أحد كبار أدبائنا في الرياض وفاءً منه بالرغم من تكثيف التزاماته، وما لا يعلمه صاحبكم من جدوله أكثرُ مما يعلمه.
(3)
* ليس الحديث للذاكرة؛ فلن يفيَها كتاب، ولا للذكرى؛ فمثله لا يغيب، ولكنها تداعياتٌ وعاها عن بعض أيام أبي طلال الأخيرة قبل حادثة سقوطه في منزله بالضاحية الباريسية، ولعل مبعثها- بعد إرادة الله- تحميلُه نفسه فوق طاقتها، وعدمُ رأفة الأغلبية بمن يرونه هيّنًا لينًا مستجيبًا ذا ذوقٍ قولي وفعلي، ولن يفشيَ خافيًا حين يقول إنه قد ناقش هذا معه مرارًا منذ فجيعته بوفاة ابنه طلال التي أثَّرت في مشاعره كثيرًا، ولكن الكريم يأبى إلا السخاءَ، وكما جاد بنفيسه لم يضِنُّ بنفسه، وفي ورقته البحثية التي قدمها صاحبكم عنه وقت تكريمه في مهرجان الجنادرية 1438هـ- 2017م تحت عنوان: «ريادة الإعلام وشموخ الأَعلام» عرضٌ لبعض سماته الشخصية والعلمية والعملية وترحاله بين الإعلام والأعلام وجوانبه الإنسانية، ولعلها – مع سواها مما كتب ويُكتب عنه- توثق رحلة ثمانية عقودٍ إلا قليلًا؛ عمادها الجدية التامة والعطاء الصادق والروح الشفافة والوفاء النادر.
(4)
* مضى صاحب القلب المتعب وبقيت جراحُ قلوبنا الحزينة؛ إذ لن يشفيَها دموعٌ تَروي الفقد أو حزنٌ يفيض بالوجد؛ فليس مصابُ صاحبكم به مصابًا بشخصٍ عابر بل بشخوصٍ لا شأن لها بعلمه ولا عمله ولا مكانه ولا مكانته لكنها تحكي لطفَه ووصلَه وخيريّتَه وإيثارَه وتواضعَه وبذلَه ومبادراته، والظن أن صاحبكم لو دوّن سيرته فسيكون لحبيبنا أبي طلال جزءٌ منها، غير أن هذا حديث لم يحنْ بعد؛ رحمه الله.
(5)
* رسمُ الألم لا يشبهُ خطَّ القلم.
** **
برمّانا - لبنان