د.عبدالله الغذامي
بداية عهدي معه عام 1957 ، كنت في الخامس الابتدائي ويسمونها أولى تمهيدي في مصطلحات المعهد العلمي وهو في القسم الثانوي ، وكانت أخبار زيارة الملك سعود تصنع الأجواء وتعمر عنيزة بالزينة في الشوارع والدهشة في قلوبنا نحن الصغار، واختارت إدارة المعهد صغار السن ليكونوا على أبواب المعهد ولقنونا تحية الاستقبال، مع جملة ختامية سيختمها عبد الرحمن الشبيلي الذي سيقود فريقنا الصغير وهو بيننا الأكبر سنا والأطول قامة بحيث يتضح صوته مع النشيد ، وكلفه المعهد بقيادتنا لاستقبال الملك سعود على باب المعهد، وحين تجمعنا عمل لنا بروفة بالكلمات التي سنرددها خلفه مع ضبط الإيقاع وضبط حركة البداية والنهاية، وركز علينا لو نسي أحد منا مفردة بأن عليه أن يصمت حتى تمر الكلمة ثم يواصل مع البقية، وحذرنا من نطق الكلمة المنسية حتى لا يضطرب مجرى النشيد والتحية ، ضبطنا الأمر مع تخوف طبيعي من نشاز قد يقع فيحرجنا أمام الملك ، ومع هذا لاحظنا أن بيد عبد الرحمن الشبيلي مقصا أثار عجبنا ولم نفهم حتى رأيناه يضعه في صحن مفروش بغطاء أخضر، وإذا به يسلمه للملك سعود ليقص شريط افتتاح المبنى الجديد للمعهد الذي انتهى ذلك العام وانتقلنا إليه مغادرين المبنى الطيني، لنحل في ذلك المبنى المسلح والجديد مع حديقة غناء ودورين مكتظين بالفصول والقاعات والمسرح ، وإن كنا رأينا المقص يقص شريطا أخضر ففهمنا وظيفة المقص لكننا ظللنا نقمع ضحكاتنا من حركة لم نكن نعي ما حقيقتها ذلك الحين .
تلك هي أول قصة مباشرة لي مع أبي طلال ، وقبلها كنت حضرت مع والدي لمبنى المعهد القديم، حيث أقيمت مسرحية حضرها الشيخ السعدي ووجوه أهل عنيزة كافة، وحظيت أنا بمقعد متقدم لأني بصحبة والدي ، ورأيت الجيل السابق علينا وهم يمثلون على المسرح ومن ضمنهم عبد الرحمن الشبيلي الذي وقع جريحا كما هو دوره في المسرحية وتم إسعافه من زملائه وهم يمجدون جرحه البطولي ويرددون الأهازيج بصوت ملأ القاعة ، وبقيت صورة عبد الرحمن الشبيلي الجريح في ذاكرتي مصحوبة بمعنى بطولة الجرح في معركة الشرف ، ومما يذكر هنا أن في المسرحية شخصية نسوية مثل دورها طالب في المعهد بلباس نسوي ، ولم يثر ذلك أي اعتراض من الشيخ عبد الرحمن السعدي ولا من غيره ، وظل أثر تلك المسرحية في ذاكرتي ، وقد كانت في عام 1954 .
تلك قصص أبي طلال الأولى عندي ، أما قصصه بعد ذلك فهي تاريخه المشهود مذيعا في الإذاعة في بداية الستينات ثم في التلفزيون ، ثم رياداته الأكاديمية والبحثية ودوره في رصد تاريخ الإعلام ورجالاته عندنا ، مع واسع دائرة صداقاته وعلاقاته الوفيرة مع الكل ، وما له من سجل معنوي في طيب المجلس وبشاشة الروح .
وكما افتتحت حياتي مع الدهشة بمعرفتي به فإن ختامها دهشة مماثلة أيضاً، فقد تمت دعوتنا معا في رمضان الفائت مع مطلع العشر الأواخر للقاء مع سمو ولي العهد في جدة، وتلاقينا في الطائرة حيث تأخر ركوبه وحين طل لوح بيده مسلما علي، وحين وصلنا جدة أشار إلي بيده ونحن لما نزل في الطائرة مبديا رغبته لأن نتحرك سويا، ولذا تنازل عن سيارته المخصصة له وصحبني في سيارتي ، وصدمنا معا حين اكتشفنا أننا في فندقين مختلفين وإن تجاورا ، ولذا رتب معي كل حالات تحركنا بدءا من الفطور معا مغرب ذلك اليوم وقدم اعتذاره عن اليوم التالي لأنه سيغادر للرياض في الضحى بسبب لقاء عائلي في المساء التالي ، كما لاحظت أنه في جدة ذهب عصرا لزيارات بين أقاربه هناك مع أنه صائم ومرهق ، ولم أتدخل بخصوصياته لحظتها ولكني أشفقت عليه من حرصه على توزيع وقته بيني وبين قرابته مشددا على رغبته في أن نتجاور معا في الجلسة عند ولي العهد ، ولم يفرقنا سوى المكيف البارد حيث اضطررت للجوء إلى كرسي بعيد عن فحيح المكيف ، وقد هاتفته بعد عودتي للرياض لأعبر له عن دهشتي باهتمامه بالقربى لدرجة أن يثقل على جسده وصحته فوق طاقتها ولم يطلب من قرابة جدة أن يمروا عليه في الفندق ولا طلب من قرابة الرياض أن يؤخروا لقاءهم إلى أن يرتاح .
عجبت لهذه الأريحية مع مشقة تلك الرحلة كوننا صائمين ونترحل في مواعيد لا تسمح براحة بين حركة وأخرى ، كما أني عجبت لشدة حرصه على مصاحبتي مع حرصه على وضعي بالصورة عن ارتباطاته وكأنما يعتذر لي عن إخلال بواجب ، وهذا ما جعلني أتحدث معه مؤكداً له عميق دهشتي على وفائه ولطف رفقته ، وإن كنت أعرفه في المجالس والمناسبات وأعرف حرصه على التودد والتلطف في المحادثة وفي تقدير جليسه ، لكني في تلك المرة رأيته في سفر وتذكرت أني لم أصحبه في سفر قط ، وحين سمعت بحادثة باريس تحركت مشاعري كلها وجاءني هاجس أنه كان يودع وكان يكتب توقيعه على صك المحبة ، وفي واحدة من جلساتنا في جدة ذكرت له قصة زيارة الملك سعود لعنيزة ودوره في قيادة مجموعتنا الصغيرة وطرائف أخرى مثلها في تلك المناسبة ورغب مني أن أكتب عنها ، فوعدته بذلك ، ولم أكن أعلم أني سأكتبها بعد رحيله ، غفر الله له وجعل البسمة التي عمر بها حياته الدنيا عمارا بلقاء ربه بروح راضية مرضية .