د. سليمان بن محمد العيدي
ودَّعت الأسرة السعودية، ليلة البارحة، فقيدها صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن عبد العزيز آل سعود، في رحلة حياة مليئة بخدمة وطنه وحبه لمليكه وتدينه المعروف وحيائه الجمّ.. كنتُ في السنوات العشر الأخيرة منها قريبًا منه؛ إذ لا يمضي الشهر أو الشهران إلا وأجلس لدقائق معه - رحمه الله - في قصره بالرياض أو قصر الشرق بجدة أو في مَطلَّته على المسجد النبوي، وخلال هذه السنوات رأيت عجبًا في شخصيته، هذا الأمير العابد الصامت الذي يتحاور مع جلسائه في هدوء عقب تلاوة جزء من الكتب النبوية يقوم بعدها القارئ بشرح موجز أمامه، ثم يعلِّق - رحمه الله - على هذا الموضوع ويربطه بواقع الحياة اليومية، وكان مجلسه بعيدًا عن فضول القول؛ لأنه سيد المجلس، يطرح بعض التساؤلات على محبيه ويعلِّق الآخرون كلٌّ من وجهة نظره.
كان، رحمه الله، متواضعًا من غير ضعف، قويًّا في الحق، نداؤه للآخرين بعلامة تعجب، يسأل عن البعيد قبل القريب، عرفت سموه فقط قريبًا كما قلت، لكن مجلسه العلمي أفادني كثيرًا.
دخلت عليه ذات يوم، وهو من عشاق متابعة الأخبار في القناة السعودية الأولى، فقال: «عندي ملاحظات على مذيعي الأخبار؛ لماذا لا تُظهرون الشخصية السعودية على الشاشة وهندام المذيع هو هويتنا أمام الآخرين؟! أخ سليمان، أنتم عليكم مسؤولية تعليم الجيل تقاليدنا وعاداتنا وسمت بلدنا». شكرته على هذه الملاحظة وأبلغت حينها الزملاء المعنيين، وهي راسخة في ذهني حتى اللحظة.
موقف آخر، وكعادة الحلماء، قال بتعجب وبكلمة الحق: أنت اليوم مُسبِل - يعني طويل الثوب من أسفله - حاول مرة أخرى أن تنتبه. كان، رحمه الله، يوجِّه بأدب، وينصح بفراسة، ويوصِّل رسائله بطريقة يفهمها جلساؤه.
حضرت مجلسًا ذات يوم في المدينة المنورة فعلمت أنه لا يتحدث مع أحد على الإطلاق قبل الإفطار؛ لأنه كان في حالة مناجاة مع ربه، مُستقبِلًا القبلة، ولا يُسلَّم عليه إلا بعد الإفطار وأداء صلاة المغرب في رمضان.
كان، رحمه الله، وديعًا حليمًا، يسمع آراء مَن حوله، ويعلِّم الآخرين بأدب وأناة، وكان معجبًا بالبرامج الثقافية والحوارية عبر شاشة التلفزيون، طلب مني ذات يوم سلسلةً كاملةً لبعض محدثي التلفزيون عن طريق الصديق الأستاذ جعفر، مدير مكتبه وأحد الكتبة عنده، ويحاول - رحمه الله - متابعة الأخبار بكل دقة؛ فذات يوم وكنت وكيلًا للتلفزيون تأخرتْ نشرة الأخبار لنقل مناسبة ملكية على الهواء، فسأل الأخ جعفر أنِ اسألْ سليمان عن تأخُّر أخبار التاسعة والنصف مساءً، ما يدل على حرصه ودقته في جوانب كثيرة من اهتماماته.
ولا شك أن هذا الأمير ضرب أروع الأمثلة للعابد المختفي الذي رحل بصمت، ورأينا الدعوات عبر التواصل الاجتماعي وبرقيات التعازي التي وصلت إلى سيدي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين والأسرة المالكة..
والعزاء في أن هذه الشخصية الأميرية رسَّخت في الأذهان المدلول النبوي «خيركم من طال عمره وحسن عمله».
نسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يلهم أبناءه وبناته وحرمه ومقربيه والأسرة المالكة الصبر والسلوان.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.