عبدالعزيز السماري
أشياء كثيرة قد تغيرت في المجتمع، فالناس فقدوا بعض من أخلاقيات التعايش والتعاضد والتكاتف، ولعلني أحد الذين يؤمنون أن زمن الطيبين قد ولى، وربما نصل قريبًا إلى مرحلة البحث عنهم في الأماكن البعيدة عن طغيان سلوك الحضارة المادية، وقد نسمع قريبًا أن آخر الطيبين قد رحل عن هذه الدنيا، وإذا كان أحد أفراد عائلتك من ذلك الزمن، فحاول أن تتعلم منه أخلاقيات وسلوكيات ذلك الزمن، قبل أن يرحل إلى لقاء ربه، فالتفكير المادي يكاد يقتل الطيبة في هذا الجيل..
إذا رحل أحدهم من حياتك، فأعلم أنك فقدت رمزًا لذلك الزمن الجميل، فقد كانت فيه المحبة والطيبة والحسنى والتسامح سمات لا تختلف باختلاف الأماكن والأشخاص، وبعد طفرة الأشياء تحول العقل الإنساني خلال العقود الماضية إلى كتلة من الغرائز التي يسيل لعابها عند خروج أي منتج جديد، فالناس تحولوا إما إلى مندوبي مبيعات أو إلى مستهلك مادي همه الأول التفكير في شراء الأشياء الأغلى والأكثر ندرة..
يتم الترويج في العصر المادي لخرافة مفادها أنك تستطيع شراء السعادة، وأن البلدان الأكثر ثراء أسعد من الدول الفقيرة، وأن الأشخاص الأكثر دخلاً داخل البلدان الأكثر ثراء هم أكثر سعادة أيضًا، وقد تكون في ظاهرها صحيحة، لكنها في المضمون غير صحيحة على الإطلاق، فالسعادة تأتي من فلسفة النظر للأشياء، وقد تكون لها علاقة بالبيئة التي تعيش فيها.
التفكير في الاستحواذ قد يوفر بعض من السعادة اللحظية للأشخاص الماديين، وبسبب هذه اللحظات الكاذبة تطورت هذه الغريزة إلى أن أصبحت مثل الوحش الكاسر في عقولنا، فأدمغتنا في هذا الزمن تعتقد أن الحصول على أشياء جديدة سيجعلنا أكثر سعادة، لكننا لا نعلم لماذا تحولت أدمغتنا للعمل بهذه الطريقة.
يفسر علم النفس اليوم بضعة نظريات كثيرة تحاول اكتشاف أصل المادية، فيعتقد عديد من الاقتصاديين والسياسيين أن الامتلاك - الدافع لشراء وامتلاك الأشياء - أمر طبيعي للبشر، ويبدو هذا منطقيًا من حيث نظرية داروين للتطور: نظرًا لأن الموارد الطبيعية محدودة، يتعين على البشر التنافس عليها، ومحاولة المطالبة بأكبر جزء ممكن منهم.
وقد يكون السبب أن المجتمعات تحولت إلى أنظمة مادية غير آمنة، فالحياة الآن أصبح لها ثمن مكلف جدًا، فالدفع تحول إلى سلوك يومي في حياة الإنسان، وإذا لم يدفع المرء، تتضاعف عليه العقوبات، وقد تتوقف عنه الخدمات، وقد تبدأ رحلة الشفاء من المادية المفرطة بأن يتوقف الإنسان عن شراء الكثير من الأشياء غير الضرورية، وإنفاق المزيد من المال على حاجاته الضرورية في حياته اليومية، والبعد عن التجول في الأسواق بلا غرض..
ولكن إذا أراد أن يكون أحدكم مثل الطيبين، فعليه أن يخرج من المدينة، ويبحث عن مكان نائي تتوافر فيه مصادر الطبيعة خارج الزحمة والفواتير والمخالفات وجنون الشراء والاستهلاك، وربما بهذه الطريقة قد نستعيد بعض من ذلك الجيل في زمن الحضارة المادية، رحمكم الله وأسكنكم جنات النعيم، فقد كنتم وقودًا لجيلنا، ولن ننساكم مهما طالت الحياة.