د. حمزة السالم
عندما أدرِّس طلبتي الاقتصاد، أبدأ كل موضوع -غالباً- بضرب مثال من أنفسنا يمثِّل تصرفاً سلوكياً وذهنياً طبيعياً يقوم به الإنسان العادي في قراراته الإنتاجية ليحقق لنفسه أعلى ربح. فمثلاً: لو طُلب من صاحبة مشغل نسائي توظيف امرأة عندها في المشغل ستقول: «لا مانع إن كانت «بتغطي» راتبها». وهذا التفكير الفطري البسيط هو في الواقع يشكِّل تقريباً علم (الاقتصاد الجزئي)، المتمثِّل في إنتاج كمية تحقق المستوى الأمثل، وبالتالي عند الكلفة الأدنى، وبالتالي أعظم ربح يمكن تحقيقه. وهذا جميعه هو تمثيل لفلسفة الاقتصاد بأكمله؛ لأن هذا الفكر إذا قام به كل أفراد المجتمع وصل المجتمع إلى مستوى الاستغلال الأمثل للموارد البشرية والطبيعية. فعلم الاقتصاد الجزئي هو مجرد توثيق علمي رياضي مُثبت للسلوك الإنساني في السوق، تجاه معطيات ومخرجات الطبيعة الديناميكية للسوق.
فالسوق منتهى نتائج الاقتصاد ومدخلاته، فهي تخرج من السوق وتعود إليه. ولهذا؛ كان الاقتصاد الجزئي هو أصل علم الاقتصاد وأساسه ولم يتعداه إلى الاقتصاد الكلي كعلم مستقل عنه ومؤصّل إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد جاء تطور علم الاقتصاد للتحليل الكلي، كنتيجة لتوقف التجارة الدولية بسبب عدم وجود عملة دولية موثوقة بعد أن أثبتت الدول عدم التزامها بتغطية عملاتها بالذهب عند الأزمات والحروب، وكذلك لفقدان بريطانيا خاصة، وأوربا عموماً، لاحتياطياتها الذهبية خلال الحربين.
فالتجارة الدولية هي من الاقتصاد الجزئي في دراساتها الاقتصادية. ولكن دخول الحاجة لعملة دولية قادرة على حمل هذه التبادلات التجارية وعلاقتها بعملات الدول الأخرى المحلية، وعلاقة العملة المحلية بالإنتاج في دولتها، وتأثير الحكومة على الإنتاج من خلال التنظيمات والضرائب والإنفاق أخرج الحاجة لنظرة كُلِّية جامعة شاملة تربط بين النقد والحكومة والعرض العام والطلب العام.
فدراسة الطلب العام والعرض العام، كانت ضمن دراسات الاقتصاد الجزئي. أما سلوك الحكومة الاقتصادي، فقد كانت دراسته تدخل ضمن الفلسفة السياسية. وأما دراسة النقد، فلم تتعد التطبيق المجرد التعاملي، ولم تكن له فلسفة تأصيلية علمية خارج فلسفة الأديان والفلاسفة الاجتماعيين والفلسفة المثالية والأخلاقية.
فخرج الاقتصاد الكلي جامعاً لهذه العناصر الثلاثة، ليقوم بدراسة تحليلية وعلاجية شاملة لجميع الإنتاج الإنساني السلعي والخدمي المحصور في منطقة معينة، تحت ظل سياسة حكومية ونقدية موحَّدة.
فدراسة صناعة السيارات في بلد أو في العالم أو جميع الصناعة العالمية -مثلاً- هي كلها حالات من الاقتصاد الجزئي. بينما دراسة اقتصاد قرية أو مدينة أو منطقة أو دولة أو دول تحت سياسة نقدية وضريبية وتنظيمية موحَّدة هو من الاقتصاد الكلي.
وقد أثبت علم الاقتصاد الكلي أنه، من حيث منهج التفكير التحليلي، أنه لا يختلف مطلقاً عن علم الاقتصاد الجزئي الراسخ منذ قرون. فكلاهما مجرد دراسة طبيب نفسي لسلوك الإنسان في غريزته التي تدفعه لتحقيق مصالحه الخاصة بتحقيق الأفضل والأنسب له، والتي خلقها الله ضمن خلقه لكونه؛ فجعل غريزة الأنانية الفطرية الإنسانية في تحقيق الربح موافقة لخلق الله، لكي يتحقق الاستغلال الأمثل لما سخَّره سبحانه للإنسان في الأرض وفي السماء إذا ما حكَّم الإنسان فطرته التي فُطر عليها من الظلم والاعتداء على مصالح الآخرين لتحقيق مصلحته. ولهذا استقرت دراسات علم الاقتصاد الكلي على عدم معاندة خلق الله في الإنسان والسوق والكون، وذلك بتركها تتفاعل على سنن الله الكونية. وأما سياساته فقد استقرت على تحديد العلاج اللازم لمنع الظلم والاعتداء والأنانية السلبية المفطور عليها بني البشر، وذلك باستخدام السلطة الحكومية والسلطة النقدية في سن الأنظمة لتحفيز المنافسة الإيجابية المدفوعة بغزيرة الأنانية الإنسانية ولمنع أو تقليل المنافسة السلبية المدفوعة بغريزة الظلم.
فالتشابك والتداخل والتعقيدات بين السلوك الإنساني في السوق مع فطرة البشر في تعامله مع النقد، مع سلوكيات الحكومة مع الأنظمة السياسية مع النظام النقدي لمجتمع أو دولة معينة، مع مدى تأثر كل ما سبق وتداخله مع المجتمعات والدول الأخرى، هو محور علم الاقتصاد الكلي الذي خرج خديجاً كعلم مستقل قبل نصف قرن وما دخل قاعات الجامعات إلا منذ عقود. وما زال علم الاقتصاد الكلي، فاقداً للاستقرار إلى اليوم.