شريفة الشملان
يُحكى أن غرابًا كان يعشق حمامة عشقًا كبيرًا، ويراقب مشيتها، ويسمع هديلها بنغمات عذبة.. يُمنّي النفس أن يكون كفؤًا لها؛ كان يُجهد نفسه ليلاً ونهارًا في التدريب على الهديل.
عندما أحس بأنه أتقنه قرّر أن يفوز بقلب تلك الجميلة؛ فما إن غادرت عشها حتى جاء يهدل؛ فصاح (غاق، غاق). التفتت الحمامة اللطيفة، ودخلت مسرعة لعشها، ورفعت جناحيها؛ لتصك أذنَيها عن هذا الصوت المنكر. فَقَدَ الغراب أمله في الهديل؛ لذا فكَّر بمشيتها الجميلة، وكأنها راقصة بالية روسية؛ فقرر التدرُّب على مشيتها، ومضى الليل والنهار يتدرب.
بقي مرابطًا أمام النخلة الباسقة؛ ينتظر خروجها ليريها مشيته الجميلة التي تضاهي مشيتها.
وما إن خرجت حتى نزل للأرض يرفع جناحيه تحية، ويسير سيرًا يقلدها، لكنه - للأسف - لم يستطع ذلك؛ وشعر بالخيبة المميتة. وحصلت مشكلة أن الغراب نسي مشيته الأولى. هذا ما حدثتني به جدتي في ساعة صفاء، وقالت: «يا بنيتي.. كوني أنت».
ولكن هناك حكاية أخرى لعزيز نسين -رحمه الله- وهو من رواد القصة القصيرة المتهكمة جدًّا والهزلية جدًّا، وله مسرحيات كثيرة وروايات عديدة، وسبق أن أعددت عنه بحثًا، قدمته في الأيام السعودية بإسطنبول..
إنه لا يتركك إلا وابتسامة تنير وجهك.
القصة التي سأحكي عنها هي (لغتنا نحن معشر الحمير). بالمناسبة تضيع العناوين أحيانًا بين الترجمات؛ فالبعض يعيد الترجمات واضعًا عناوين جديدة، يغش بها المشتري. وليس هذا ما أريده في مقالي هذا. إنما سأحكي عن هذه القصة بتصرف.
يقول (نسين) باختصار: كانت لنا نحن معشر الحمير لغة جميلة لطيفة، نخاطب بعضنا بها، ونتفاهم، ونحل مشاكلنا من خلالها.. وكنا فخورين بلغتنا هذه بين عباد الله.
جدّنا الأكبر كان يسير في الغابة، وهناك لمح شكل ذئب كبير من بعيد؛ لأنه طرب في هذه الغابة الجميلة. كذّب بصره، وقال في نفسه إن ما يراه خدعة بصرية. بعد قليل سمع عواء الذئب. وأيضًا كذّب سمعه، وظل يتمتع بما يراه من زهور وفراشات، ويأكل برسيمًا غضًّا، ويرقص على نغمات يدندنها.
الذئب الذي كان في الغابة قرب جدًّا، وباتت أنفاسه قريبة جدًّا؛ إذ يشعر بحرارتها، لكن لم يعد بوسعه الهرب. هجم الذئب عليه، وعضه عضة كبيرة، لم تفلته. صرخ الجدّ الأكبر (هاق.. هاق). ومن وقتها لم يعد لنا نحن الحمير لغة.
وكثيرة هي حكايات اللغة عندما تهمل، ولها قصص كثيرة في الواقع الشعبي، يتداولها الكبار والصغار. ولنا أمثلة كثيرة في هذا. فكم من لغة باتت طي النسيان.
القرآن الكريم يحفظ لنا لغتنا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر آية 9).
نعم، سنجد لغتنا دائمًا في طيات القرآن، ولكن كيف نجدها في أفواه الأجيال، وهناك غزو لغوي كبير، وهذا الغزو متقبَّل اجتماعيًّا -للأسف- بشكل واسع وكبير.. نجده في أسماء المحال والمطاعم والأسواق المركزية، ونجده في أفوه الشباب والمراهقين، وحتى أطفال رياض الأطفال!
نعم، نزّل سبحانه وتعالى القرآن بلغة عربية، ونقرؤه بها، وستقرؤه الأجيال من بعدنا، لكن أخشى ما أخشاه أن يأتي يوم نتكلم فيه لغة هجينة جدًّا، ونقرأ القرآن كما يُقرأ في البلاد غير العربية! ستحفظه الصدور، ولكن ربما الأفواه لن تجيد قراءته وتدبره. إن لم نحفظ لغتنا سيحاسبنا الله حسابًا عسيرًا.
الله سبحانه وتعالى أكرمنا باللغة التي أنزل بها القرآن.. فلنكن على مستوى هذا الكرم..
اللهم يا حافظ ساعدنا لنحفظ ثقافتنا وديننا ولغتنا، لا إله إلا أنت.