د. خيرية السقاف
دعت بعضاً من صديقاتها إلى وجبة عشاء، تخيَّرت لهن مطعماً يطل على شارع تصف على جانبيه نخلات باسقات خضراء، وينساب السير فيه بلا ضجج، كأنه جدول نهر يرطب من وهج صيف حارق يجتاح المدينة..
هناك، حيث اقتعدن جوار بعضهن في صفين متقابلين، تستعيد فيه كل منهن حوارات الزمن الذي أغرقهن انشغالاً بتفاصيل الحياة، فلم يمنحهن فرصاً للقاء إلا عبوراً،
هناك رأت أن تطلب كل منهن ما تشتهي من لذيذ الطعام.. مشيرة إليهن بانتقائها المكان لوجباته المنوّعة ذات النكهات المثيرة للشهية، مختلفة المصدر، ضحكت إحداهن وهي تعلق: «لا نسافر، فلنتخيل إننا في خارج المدينة، في رحلة سفر»، وبدأت تطلب وجبتها طبقاً إيطالياً شهياً، وعلى أثرها فعلت الأخريات، كنَّ أكثر من سبع نساء قد مسح الزمن على وجوههن بآثاره، بينهن واحدة صامتة، لم تبدأ في طلبها، بل لم تنظر بدءاً في قائمة الطعام، كانت تعلم جرحها، ومدى إيلامها، فهي عن قرب قد فقدت زوجها الذي كان يمتلك مطعماً شهيراً، أخذت تجاذبها الحديث، تقترح لها وجبة وأخرى، وتأخذها لذكريات تفرحها..
الحياة كهذا الوقت الذي نمضيه حول طاولة مستديرة، مثلها تماماً ننزل بها وما نلبث أن نغادرها، تماماً شبيهة بهذه الأطباق التي نختارها وما تلبث أن تمرح في أجسادنا طاقة،
الحياة ليست تختلف عن كل الذي فوق الطاولة فارغاً ينتظر أن يُمْلأ بماء، أو عصير، ومن ثم يعود فيفرغ، وهذه الملاعق، وملحقاتها التي تنتظر نظيفة لتُمسَّ بما يؤكل..
مضى الوقت، وانقضت الدعوة، وجاء وقت الدفع، انبرت كل واحدة منهن للمبادرة، لكنها قد طلبت النادل أن يأتيها بالقيمة في الختام، وبينما هي تدفع ثمن العشاء كانت الجلسة قد أوشكت على الانتهاء، كل واحدة منهن نهضت لتودع الأخرى، ولتعود أدراجها تنغمس في الشارع الطويل وحدها..
وفي آخر مصافحة بينهن تصدَّرت لوحة من حقيقة الحياة جدار ذاكرة كل منهن..
وحدها الحقيقة التي لا مناص..
وحدها الحياة التي تمضي..
والنهاية التي لا تعبأ بشيء
الأشباه ليست مفردة على أية حال!!..