د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قرأت كتاباً لأحد الإخوة الكرام، وفيه الكثير عن المتنبي الشاعر المعروف، بل إن الكتاب قد صيغ كرواية عن المتنبي، وكأنه عاش في خلد المؤلف، ولديّ ملاحظات كثيرة حول ما قيل فيه، لكن نستشهد بشيء مما ورد من شعر المتنبي في هذا الكتاب، لا ريب أن شعر المتنبي ملئ بالحكمة، والزهو، والمدح، والقدح، والوصف، والقصف، وهو أيضاً ملئ بالتناقض بين ما يقوله شعراً، وما يحمله من طبائع وسجايا فها هو يقول:
وإنّي رأيتُ الضُّرّ أحسَنَ مَنظراً
وأهْوَنَ مِنْ مَرْأى صَغيرٍ بهِ كِبْرُ
ولاشك أنه يقصد بالصغير، صغير القدر وليس صغير العمر، وهو لا يطيق أن يرى صغير القدر متكبراً زاهياً على غيره، فهل يا ترى أنه لا يمانع أن تتجسد هذه الخصلة الذميمة في رفيع القدر كما يرى نفسه، أو أنه يرى أن تلك الخصلة الذميمة غير مقبولة، لكنها تكون أكثر قبحاً عندما تكون لدى صغير القدر الذي ليس لديه دوافع الكبر، والتي ربما ترافق بعضاً من أصحاب الجاه، والمال، أو العلم، أو الإبداع، في أي حقل من الفنون، مثل الشعر، أو الكتابة، أو القراءة، أو بروز في الألعاب الرياضية، وغيرها من نواحي الإبداع.
والمتنبي مشهور بالزهو، ومع هذا فهو يذم أمراً قد أبتلي به، فهو يسمح أن يعيشه في نفسه لكن لا يقبل أن يرى تلك الخصلة الممقوتة في غيره، والحقيقة أن هذه ظاهرة قد لا تكون خاصة بالمتنبي، بل إن الكثير يذم بعضاً من العيوب التي يراها في غيره، لكنه لم يكلف نفسه عناء النظر بعين المنصف إلى ما به، ليُحسِّن ذات ويتخلص مما يراه قبيحاً عند غيره، والمتنبي يقول أيضاً:
ذَلّ مَنْ يَغْبِطُ الذّليل بعَيشٍ
رُبّ عَيشٍ أخَفُّ منْهُ الحِمامُ
كُلُّ حِلْمٍ أتَى بغَيرِ اقْتِدارٍ
حُجّةٌ لاجئ إلَيها اللّئَامُ
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
ونحن نعلم أنه قد تذلل لدى سيف الدولة، وقال فيه من الشعر ما خرج عن المألوف، وتجاوز به الحد المسموح، وذهب إلى كافور في مصر بعد إذلال حاق به في مجلس سيف الدول، وأخلى له كافور داراً بعد قدومه، وخلع عليه، وحمل إليه دراهم كثيرة، فقال فيه أشعاراً سارة بها الركبان، ومنها قوله:
قَوَاصِدَ كَافُورٍ تَوَارِكَ غَيرِهِ
وَمَنْ قَصَدَ البَحرَ استَقَلّ السّوَاقِيا
إلى أن قال:
أبا المِسكِ ذا الوَجْهُ الذي كنتُ تائِقاً
إلَيْهِ وَذا اليَوْمُ الذي كنتُ رَاجِيَا
ويقول:
أبَا كُلّ طِيبٍ لا أبَا المِسْكِ وَحدَه
وَكلَّ سَحابٍ لا أخُصّ الغَوَادِيَا
وهو بهذا يقول: إن كافور أب للطيب جميعه، كما أنه، أب للسحاب القادم وليس الزائل.
وهو رجل يبجل الكرم، ويصف به ممدوحيه، ويراه أعظم حلية يتحلى بها المرء، وأجمل زينه يكتسبها، ومع هذا فمن المعروف عنه أنه شحيح ووصولي، رغم كثرة ماله الواصل إليه من الهبات والعطايا التي جلها له شعر المميز، فهو يريد أن يرى الناس كرماء ليهبوه، لكن لا يريد أن يراه الناس كريماً ليهيب من ماله، وقد كان قدحه في إحدى القبائل، وزهوه، وعدم أخذ عدد كان من المرافقين معه سبباً في وفاته، فترك ما جمع من حطام الدنيا، ليرثه غيره.
قد لا يتفق البعض مع المؤرخ البريطاني جيبون، وهو يكتب عن قيصر حيث يقول: «خصاله منبثقة من نفسه، وعيوبه عيوب زمانه» وقول المتنبي:
فَلا تُلزِمَنّي ذُنُوبَ الزّمَانِ،
إلَيّ أسَاءَ وَإيّايَ ضَارَا
ودعونا نبتعد قليلاً لقطف شيئاً مما قاله عبدالله القصيمي الذي كان ساخطاً على زمانه، ومجتمعه ماسكاً بقلم قاس وجاف، وقد سل سيف كلماته على المتنبي وزمانه، فقال وبصيغة فيها شيء من الركاكة ربما ناتجة من الانفعال: «لم يكن المتنبي إلا تجمعاً فادحاً كئيباً أليماً من خصائص وأخلاق وطاقات وعقول آبائه وتاريخهم، وظروفه وبيئته، إنه لم يكن عاشقاً للقبح بل مصاباً به، إنه لم يكن عفناً ولدته نظافة، ولا قبحاً ولدته قمامة، ولا تفاهة ولدته عبقرية، ولا نذالة ولدته كرامة، ولا بغضاء ولدته محبة».. وأقول: الحقيقة أن المتنبي وآباءه وزمانه أسمى وأعلى من هذا الكلام، وفي شعره من الحلاوة والطراوة والحكمة، ما لم يجاريه أحد حتى يومنا هذا، لكنه عبدالله القصيمي المندفع الساقط على عصره -عفا الله عنه-.