د. خيرية السقاف
من الناس من يذهب في شأن «الشَّفاعة» رافضاً يظنها تنصرف على الإطلاق لظلم ذي حق، ولتمكين من ليس له حق في موضوعها..
وهناك من يعلم أن «الشفاعة» تقديم معروف لمن يعجز عن الوصول لمرجعه فيصله بمن له قدرة التنفيذ، وجاه البلوغ..
إذ قد اختلطت المفاهيم بين الناس لكثير من القيم، ولكل ما يتعلّق بها من وسيلة، ومنها «الشَّفاعة»..
إن الله تعالى هو أصدق الحق، وأعلم بالسر، والعلن، وله ميزان العدل، وبين يديه كتاب الأعمال لكل من خلق، لا تخفى فيه عليه خافية، ومع ذلك جعل من «شفاعة» محمد بن عبدالله وسيلة لبلوغ الجنة، ولكل من يأذن له بها..
«فالشفاعة» الحسنة في الناس عظيمة في أركان التواشج، ومتانة اللحمة، وتمثيل الرحمة،
وهي رابطة تشد نسيج المجتمع، وتقوِّي علائق لأفراده، حين تكون في حق يزاح عنه غطاءٌ، أو للأخذ بيد متواضع لا يمكنه بلوغ مراده، أو بيد متناكب ليجد مكانه بين المتزاحمين، أو بذي حاجة تعجز مقدراته عن الخلاص فتخرجه الشفاعة للبراح..
ولعل من كرم الأخلاق أن يشفع القادر لمن لا قدرة له، وأن يأخذ الوجيه بيد المتواضع، وأن يفسح ذي القدرة للعاجز السبيل، وأن يوارب ذي المفتاح الباب لمن لا يملك مفتاحاً، وأن تكون الشفاعة بين الناس على ما كانت سبيلاً للمسرة، بحق ضائع، وبإيصال علم مجهول لمحو ظلمة سوء ظن، وبتمكين مغمور من سدة مكسب يستحقه، أو فرصة كي لا تنهب منه..
ولنا في تراثنا الثري من الأمثلة ما تجري بها الرواية، وقد بهتت صحفها، وطويت أسفارها بين أيدي العامة، وربما الخاصة، لبعدهم عن تلاوتها، أو ربما لموت الرُّواة في اتجاهات المسارات،
وانشغال الناس ببركان المتدفقات من كل صوب إلى بؤر اهتمامهم، ومناطق شغفهم..
فالشفاعة الحسنة منقبة، ولها أثرها الطيب في النفوس، بل هي عمل صالح في سجل المرء.. فالمسلم المؤمن دوماً في «عون أخيه»، لا حجاب وجاهة بينهما، ولا حائط وقاية،
والشفاعة عونٌ، وتيسير، وتنوير للمشفوع له.. ومن ثم رصيد كسب في السِّجل للشافع بها!..
وهذا «الحسن بن سهيل» وقد كتب شفاعة في رجل فأخذ الرجل يشكره، ويكرر شكره، فقال له الحسن: «يا هذا علامَ تشكرنا؟ إنا نرى الشفاعة زكاة مروءتنا» وأنشد:
«فُرِضت عليَّ زكاة ما ملكت يدي
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجُد فإن لم تستطع
فاجهد بوسعِـك أن تنفـعا»
إذن فالشفاعة جزء في منظومة الأخلاق، ووسيلة مسلك من مسالكها،
بها لا تغلق السبل، حين تُزاحم البسطاءَ الحياةُ، فيما كلُّ ذي صوت يبلغ بصدى صوته وإن لا يستحق..
وإنها زكاة مروءة الفرد، وسبيل أدائها..
تلك هي الشفاعة الحسنة لمن يستحق.