د. محمد عبدالله العوين
لوح بيده مع قبلة على الهواء مودعًا عند آخر نقطة يمكن التوقف عندها بعد إجراءات التفتيش المعتادة، ثم اختفى بين جموع المسافرين الذين تموج بهم صالات المطار.
وثقت اللقطة الأخيرة قبل الوداع، ملأت عيني من ملامح وقسمات وجهه القلق المقبل على حياة جديدة وعالم مجهول آخر لا يعلم ماذا سيجد فيه وماذا سيواجهه وكيف يستطيع اجتراح دروب للتعامل معه.
حين اختفى وغاب كطيف أو حلم جميل قطعته اليقظة عادت محطات حياته صورًا تترى أمام عيني تكاد تحجب طريق عودتي إلى المنزل، كانت اللقطة الأولى المعبرة حين وضعت يده في يد حارس «الروضة» الأسمر العجوز وهو في سن أربع سنوات أو تزيد قليلاً ثم أسرع راكضًا إلى بهو المدرسة، ثم صورته وهو يجلس في حلقة التعارف في أول يوم بمدرسته الابتدائية ويطلب مني أن أغادر المكان، وكأنه يقول: لا خوف علي، دعني!
في ذلك الحي الهادئ، وفي ذلك الشارع الذي يتناغم جيرانه بمودة واحترام وكأنهم أسرة واحدة تبرعم عود «مشعل» وتنقل بين مدارس حي «شبرا» الأهلية إلى أن تخرج في إحدى ثانوياتها، لفت انتباه أساتذته بجرأته وتفوقه العلمي، فكان مقدم حفلات التخرج، والأول على دفعته في كل مرحلة دراسية.
هل كان هذا الفتى ابن حي شبرا المتواضع سيجد نفسه يومًا باحثًا مرحبًا به في إحدى أكبر جامعات أمريكا؛ بل الرابعة على مستوى الولايات المتحدة؛ وهي جامعة «بيركلي» في ولاية كاليفورنيا؟
هل كان فتى «شبرا» يحلم يومًا أن يجلس في معامل الفيزياء أو الهندسة الكهربائية بين عشرات الدارسين من مختلف جنسيات العالم في مرحلة الدكتوراه؟ لا شك أنه تحدٍ صعب وطموح عالي المستوى بين عباقرة ومخترعين؛ فهل سيكون في مستوى التحدي بين أكناف جامعة نال سبعة وستون من خريجيها جائزة «نوبل» وقاد حاملو شهاداتها دفة أعمال سياسية وإدارية وعلمية كبيرة في أمريكا وخارجها.
ربما منحته تجربته في جامعة الملك فهد، ثم في جامعة «كاوست» للماجستير دوافع قوية لخوض التحدي، وهو الآن يضع قدمه على أول سلم الصعود إلى القمة التي ينشدها؛ فهل يملك من العزيمة والمثابرة والصبر والطاقة وتحمل عقبات البحث العلمي ومكابدة الغربة ما يؤهله لتحقيق هدفه؟
تجربة فتى «شبرا» صورة لآلاف صور التحدي وتحقيق الطموح الكبير التي أبدعها شباب هذا الوطن منذ أن بدأ ابتعاث أبناء بلادنا بأعداد محدودة منتصف القرن الهجري من القرن الماضي، ثم تصاعدت إلى أن وصلنا إلى مئات الألوف.
وطننا يبني «حضارة» ويمكن أن تتكامل وتنهض سريعًا بتلقي علوم حضارات هذا العصر من منابعها، وهو ما مرت به تجربة النهضة في مصر واليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا وغيرها.
قلت لمشعل باسمًا ويدي تمسك يده بقوة: نحن ووطنك ننتظرك، لا تطل الغياب!