جابر بن علي القرني
لم يكن يوماً عادياً في حياتي أنا وشقيقي الأكبر عايض، حيث كنّا بمعيّة الوالد رحمه الله، وهو يخبرنا بانتقال عمله الرسمي من قصر الأمير مشعل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة الأسبق إلى قصر أمير المنطقة المعيّن حديثاً الأمير فواز بن عبدالعزيز رحمهما الله. كان ذلك في مطلع التسعينات الهجرية، وكنّا أطفالاً صغاراً، عشنا جزءاً من طفولتنا في قصر الأمير مشعل بن عبدالعزيز عندما كان أميراً لمنطقة مكة المكرمة، وكتبتُ عن تلك المرحلة مقالاً سابقاً نشر بعد وفاة الأمير مشعل -رحمه الله- قبل نحو العامين والنصف وفِي مقال آخر نشر بعد وفاة الأمير فواز -رحمه الله-، وكان قصر الأمير مشعل يقع على شارع الجامعة باخشب، قريباً من قصر شقيقه الأمير متعب بن عبدالعزيز -شفاه الله-، وكان هذان القصران الكبيران ومسجد الأمير متعب أهم معالم هذا الشارع الشهير في مدينة جدة تلك الفترة وغير بعيد عنها يقع قصر الأمير فواز قريب من مدارس الثغر النموذجية الشهيرة.
باشر سمو الأمير فواز عمله الجديد كأمير للمنطقة، وانتقل الوالد وزملاؤه فريق الحماية الأمنية من شرطة جدة للعمل مع الأمير الجديد، وانتقلنا إلى قصر الأمير فواز المطلّ على طريق مكة شمال حي مدائن الفهد، وكانت نقلة جديدة ليس في المكان فحسب، بل في طريقة العمل والتعامل واختلاف الوجوه والمرافقين وفريق العمل الذي يختلف بطبيعة الحال عند الأميرين، ولا أنسى كيف اصطحبنا الوالد لنشاهد لقاء الأمير فواز بأعيان جدة ومكة الذين توافدوا للسلام على الأمير المعيّن حديثاً في إحدى المناسبات، وكان الأمير فواز يقدّمهم قبله للسلام على شخصية وقورة كانت تتقدّم عليه، عرفنا فيما بعد أنه صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن عبدالعزيز الشقيق الأكبر للأمير فواز.
مرّت الأيام ودارت عجلة الدنيا والحياة والعمل، وكنا نأتي مع الوالد بين الحين والآخر للقصر ونسلم على سمو الأمير فواز مع عدد من أبناء العاملين في القصر وأبناء الحماية والمرافقين.. وفِي أحد الأيام أتذكر تماماً عندما حضر «العم علي بن سواد» -رحمه الله-، وكان وزير القصر أو وزير الأمير فواز، وهو مصطلح تعارف الناس آنذاك عليه والمقصود به المسؤول الأول عند الأمير في قصره وعمله الخاص. وكان يحثّ الحراسة على سرعة إبعاد مجسم على شكل صقر مذهّب كبير في مدخل المجلس الرئيس بقصر الأمير.. بطبيعة الحال استرعى انتباهي ومن معي ذلك المجسم الجميل الذي لم يُمضِ في مكانه أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام، وعرفنا أنه أهدي للأمير فواز من أحد الشخصيات السياسية الكبيرة من خارج المملكة، حيث يستقبل ويلتقي بحكم طبيعة عمله العديد من القيادات السياسية من مختلف دول العالم، واستدعى فضولي الحرص على سرعة إبعاده ونقله من مكانه إلى خارج المجلس وبشكل غير اعتيادي، ولَم يبدّد هذه التساؤلات إلا دخول جيب الشرطة بلونه الأحمر، وتلته سيارة الأمير فواز التي نعرفها ويعرفها كل من في الحي (الكاديلاك الأسود)، لكنه هذه المرة لم يكن وكالمعتاد في المقعد الأمامي وبجواره السائق، بل كان في المقعد الخلفي، وسرعان ما نزل من السيارة الرجل الوقور النحيل المبتسم الذي شاهدته قبل أشهر الأمير بندر بن عبدالعزيز الذي تقدّم شقيقه الأصغر في النزول والدخول ومن ثم السلام على المستقبلين، وبعدها الجلوس في صدر المجلس، لكن انبهاري ومن معي بهذه المشاهد وحسن الاستقبال واللطف الغامر الذي وجده الجميع من الأمير الكبير وأخيه الأصغر لم يبدد استغرابي وفضولي فيما يخص إبعاد مجسم الصقر الذي كان يحتل مكاناً بارزاً في مجلس الأمير، لكن والدي فيما بعد شرح لنا الأسباب التي تكشف عن طبيعة الاحترام والتقدير الكبير الذي يحمله الأمير فواز لشقيقه الأكبر الأمير بندر -رحمهما الله- وحرصه على عدم إزعاجه أو تكدير خاطره بأيّ شكل من الأشكال، وهو الذي عرف بورعه وتديّنه.
كان الأمير بندر عندما يأتي إلى جدة يقصد قصر شقيقه الوحيد الأمير فواز ليسكن لديه، وكان مباركاً أينما حلّ، يستبشر بحضوره كلُ من في القصر، ويؤدي الصلوات جميعها في المسجد المقابل (مسجد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، الذي أصبح فيما بعد جامع الملك عبدالله -غفر الله له-).. وكان الأمير بندر يلتقي بالشيخ «جمال التركي» إمام المسجد، ورفيق دربه وزميله في إمامة المسجد الشيخ «عقيل العقيل» -رحمهم الله جميعاً-، ونشأت علاقة وثيقة بين الأمير بندر والشيخين عقيل وجمال التركي اللذين استثمرا في تلك العلاقة بإقامة مسابقات لحفظ القرآن الكريم للناشئة والصغار، عرفنا فيما بعد أن الجوائز المالية والهدايا العينية كانت من سمو الأمير بندر، وكانت تلك الحلقات والمسابقات تقام طوال العام ولا ترتبط بوجود أو سفر الأمير الذي رصد لها ميزانية بعهدة الشيخين الجليلين.. ومن المواقف التي أتذكرها في تلك الفترة أن عدداً من الأطفال الذين كانوا يشاركون في تلك المسابقات كانوا من جنسيات غير سعودية من سكان الحي من اليمن والباكستان والهند وغيرها حيث يعمل آباؤهم في بيوت ومحلات قريبة من المسجد، وكانوا لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس الحكومية رغم تفوقهم في حفظ القرآن الكريم، ربما لأن النظام لا يسمح، أو لأن بعضهم يوجد لديه مشكلة في أوراقه الثبوتية أو في دخولهم وإقامتهم بالمملكة.. وانتهز الشيخ عقيل الفرصة لينقل معاناتهم للأمير بندر، وما هي إلا دقائق وإذا بالأمير ينهي وضعهم حالاً عبر اتصال هاتفي بالأستاذ عبدالله بوقس مدير تعليم جدة آنذاك والشخصية التربوية القيادية المعروفة (وصل بوقس -رحمه الله- لمنصب كبير لاحقاً في وزارة الحج)، بل ويرسل معهم في اليوم التالي مندوباً من طرفه إلى إدارة التعليم لضمان سرعة تسجيلهم، وكانت الإدارة في منطقة تسمى (السبعة قصور)، يعرفها أهل جدة ممن أدرك تلك الفترة. ولم يكن هذا هو الموقف الإنساني الوحيد الذي علق في ذاكرتي للأمير بندر، فقد كان لسموه موقف بالغ التأثير مع أحد العسكريين العاملين في القصر، تزوج من فتاة غير سعودية تقيم مع أهلها وأسرتها في جدة، وبعد مرور عام على الزواج انكشف أمره عند ولادة ابنه الأول ورغبته في استخراج شهادة الميلاد، لأن النظام يتطلب موافقة رسمية للزواج من غير السعوديات، وأصبح مصير هذا العسكري مهدداً بالسجن والفصل من الخدمة العسكرية، فتحيّن الشيخ عقيل فرصة وجود الأمير بندر في امسجد واستدعى العسكري الذي شرح للأمير وضعه وأنه سيتعرض للسجن ومن ثم سيطرد من عمله في حالة ثبوت زواجه رسمياً من غير سعودية دون موافقة وفقاً للوائح والأنظمة العسكرية المعمول بها، أو أنه سيضطر إلى تطليقها وبالتالي إلى تفكك أسرة وضياع مستقبل طفل صغير وأم، وأوضح للأمير أنه يجهل الأنظمة ولا يعرف حينها تبعات مثل هذا الموضوع وما يترتب عليه، وتبنى الأمير بندر هذا الموضوع وعالجه بحكمته وإنسانيته ومكانته الاجتماعية الكبيرة، وأجرى اتصالاته وبذل شفاعته واستصدر موافقة رسمية من الجهات الحكومية المسؤولة وأنقذ مستقبل هذا العسكري الشاب وحمى بتوفيق الله أسرته من التشتت والضياع.
وقد عرف عن الراحل الكبير ورعه وزهده وتدينه -يرحمه الله-، وكان شخصيةً فريدةً عاش في كنف والده المؤسس تعلم منه التنشئة الصحيحة والتربية الإسلامية ومكارم الأخلاق والشيم والقيم العربية الأصيلة، كما كان قريباً من جميع إخوانه الملوك منذ عهد الملك سعود ثم فيصل وخالد وفهد وعبدالله -رحمهم الله جميعاً-، ووصولاً إلى عهد أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله ورعاه-، وقامت علاقته مع جميع إخوانه الملوك على التقدير والاحترام المتبادل.. فقد كان خير معين لهم بالنصيحة الصادقة والرأي السديد لما عرف عنه من بعد نظر وعقلانية وحكمة؛ وليس ببعيد عنا حديثه (قبل وفاته بفترة وجيزة) مع أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- وما دار بينهما عن مخافة الله وأهمية التمسك بكتاب الله وحفظ الدين والعقيدة الإسلامية، كما ارتبط الأمير بندر بعلاقة وثيقة بالعلماء والمشائخ الأجلاء وأئمة الحرمين الشريفين، وأذكر في هذا الخصوص علاقته بالشيخ محمد الحركان -رحمه الله- الذي كان أميناً لرابطة العالم الإسلامي في منتصف التسعينات الهجرية الذي التقاه أكثر من مرة في قصر الأمير فواز حيث كان الأمير بندر حريصاً على متابعة برامج الرابطة وأحوال الأقليات المسلمة في آسيا وأوروبا وإفريقيا، حيث كان الشيخ الحركان يستعين بجهود الأمير بندر ويزوره عندما يتواجد في جدة أو مكة للعرض السريع على الملك خالد -رحمهم الله جميعاً-، من أجل دعم أحوال المسلمين ومناصرة قضاياهم وما يعزز وجودهم في مختلف دول العالم بما في ذلك بناء المساجد والمعاهد والمراكز الإسلامية، كما عرف عن الأمير بندر شغفه الكبير بالعلم، فكان مجلسه مدرسة للعلوم والمعارف، يرتاده العلماء والمشائخ وطلبة العلم الذين كان الأمير بندر يقربهم ويأنس بمجالستهم ومخالطتهم ولا يخلو مجلسه -رحمه الله- من الذكر والتدبر، حريصاً على تربية أبنائه وأحفاده وأسرته تربية إسلامية صحيحة، وكان الأمير بندر بن عبدالعزيز يولي بناء المساجد اهتماماً كبيراً ويحرص على إعمارها وتفقدها وتزويدها بالمصاحف والكتب والتفاسير والمراجع وعلى تكامل تجهيزاتها ومرافقها، ولعل آخرها ذلك الصرح الكبير الذي يحمل اسم جامع والدة الأمير بندر بن عبدالعزيز والذي تم تشييده مؤخراً عند التقاء طريق أبي بكر الصديق مع طريق الأمير محمد بن سلمان، وأصبح أحد المعالم البارزة في شمال مدينة الرياض.
وقد تميّز رحمه الله بمعرفته المتأصلة بالتاريخ والسير والأدب والشعر الذي يحمل رسالة هادفة ومعانٍ سامية بعيداً عن المدح والتكسب. وإذا كان الأمير بندر زاهداً مبتعداً عن العمل في الدولة رغم مكانته الكبيرة عند جميع إخوانه الملوك -رحمهم الله جميعاً-، فقد كان يؤدي من خارج المنظومة الرسمية الكثير من المهام ويقوم بالعديد من الأعمال استشعاراً منه بالمسؤولية والأمانة، كونه أحد أبناء جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- مؤسس هذا الكيان الكبير الذي قام على التوحيد وعلى منهج سليم دستوره كتاب الله ثم سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعلى قرب الحاكم من شعبه وما يربط بينهم من محبة وألفة كنسيج واحد يزداد قوةً وثباتاً مع مرور الزمن.
ومع أن الأمير بندر بن عبدالعزيز قد عزف عن المناصب الحكومية إلا أنه قدّم يرحمه الله للوطن صفوة الرجال، أبناءه الناجحين الذين حرص على تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وعلى تعليمهم وتأهيلهم لخدمة وطنهم ومجتمعهم في كافة المجالات، لنجدهم يتسنّمون مناصب قيادية رفيعة وعالية المستوى، بدءاً من ابنه الأكبر الأمير فيصل الذي عمل وكيلاً ثم نائباً لأمير منطقة عسير، وبعدها أميراً لمنطقة القصيم، ثم أميراً لمنطقة الرياض في هذا العهد الزاهر، وليكمل متعه الله بالصحة أكثر من أربعة عقود في خدمة أعمامه الملوك ووطنه ومجتمعه، والأمير منصور بن بندر العسكري المحترف الذي وصل لرتبة لواء طيار ركن قائداً لقاعدة الملك عبدالله الجوية في جدة، وقبلها قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية بالظهران، ثم الأمير خالد بن بندر الذي كان قائداً لسلاح المدرعات إلى أن وصل إلى رتبة فريق ركن قائداً للقوات البرية، وبعدها تسنّم مناصب قيادية منها أميراً لمنطقة الرياض ونائباً لوزير الدفاع ورئيساً للاستخبارات العامة، وصولاً إلى عمله الحالي مستشاراً لخادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-، كما تولى الأمير عبدالعزيز بن بندر مناصب قيادية أهمها مساعد رئيس الاستخبارات العامة، وهو صاحب الإنجازات والمبادرات المشهودة والمقدرة الإدارية والقيادية في عمله، ويتولى الأمير الفريق ركن الطيار تركي بن بندر حالياً منصباً رفيعاً وهو قائد القوات الجوية، وسموه من القيادات العسكرية المحترفة، والأمير عبدالله بن بندر وزير الحرس الوطني حالياً، وقبلها عمل نائباً لأمير منطقة مكة المكرمة وترك فيها الأمير الشاب بصمةً لا تنسى رغم قصر المدة التي قضاها في المنطقة, كما أسند سمو ولي العهد -حفظه الله- العديد من الملفات المهمة والمهام واللجان للأمير عبدالله، لما لسموه من السمات والقدرات القيادية المميزة.
وجميع أبناء الأمير بندر، سواءً الذين عملوا في الدولة أو خارج العمل الحكومي على قدر كبير من الإخلاص والمسؤولية والأدب والاحترام والخلق الرفيع، وعلى درجة عالية من الرقي وحسن التعامل مع الناس كبيرهم وصغيرهم، فقد نهلوا الكثير من مدرسة والدهم وكانوا خير امتداد له سائرين على نهجه ومسيرته.
وختاماً، فإنه لا يمكن لمن يكتب عن شخصية بحجم الراحل الكبير أن يتجاوز تلك المشاهد المؤثرة والتي رصدتها ووثقتها وسائل التواصل الاجتماعي لتلك الحشود الكبيرةً من مختلف مناطق المملكة ومدنها ومن مختلف الأعمار كباراً وشباباً وصغاراً التي توافدت أيّام العزاء الثلاثة على قصره في مدينة الرياض وألسنتها تلهج بالدعاء والذكر الحسن للأمير الراحل ومناقبه وسيرته العطرة.
أسأل الله -عزّ وجلّ- أن يغفر للأمير بندر بن عبدالعزيز، وأن يجعل منزلته الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدمه لخدمة دينه ووطنه وأمته، وأن يجعلها في موازين أعماله.. وستظل سيرته ومسيرته -رحمه الله- حيةً في ذاكرة هذا الوطن الذي لا ينسى رجاله المخلصين.