د.عبدالله بن معيوف الجعيد
انفردت الحضارة الإسلامية بمميزات وخصائص متعددة قريبة من روح وفطرة الإنسان، كمخلوق كرمه الله سبحانه وتعالى، ويعتبر الاتجاه الخيري هو السمة المميزة التي تتسم بها منظومة الخصائص، حيث يأبى الإسلام أن يترك المحتاجين وذوي الفاقة والحاجة يواجهون صعوبات الحياة دونما أي تدخلات من المجتمعات والدول وأهل الخير. لقد أوجب الإسلام التكافل الاجتماعي، وجعله مطلباً في ذمة المجتمعات والدول على حد سواء يتوجب القيام به وأداؤه على أحسن وجه، وما نظام الوقف الإسلامي إلا معلم من تلك المعالم الإنسانية الرائدة، التي تميزت بها الحضارة الإسلامية على مر التاريخ. وحينما حث الإسلام على هذا المبدأ الخيري والإنساني، فإنه قد بين الموارد الأساسية لتلك الاحتياجات والمطالب، مثل الزكاة والصدقة والوقف والغنائم والكفارات والنذور وغيرها. ومع أهمية كل ما سبق من موارد، فإن الوقف بمواصفاته ونمطه المميز، يظل المنهج الفريد المتميز، الذي يتسم بإنسانيته وخيريته الاستثنائية التي تتميز به الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي، وقد ظهرت آثاره العملية في مجالات متعددة شملت الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية عامة والفئات المحتاجة خاصة.
لا يخفى على أحد ما للوقف من مكانة عظيمة وآثار حميدة على المسلمين، وصلة قوية بواقعهم وماضيهم على مر العصور، وهذا ما جذب اهتمام العلماء سلفاً وخلفاً وأولوه عناية فائقة، وكان عندهم محل رعاية متواصلة، وبينوا أحكامه، وأبرزوا رسالته الدينية، وأهميته الاجتماعية في حياة المسلمين، استقاءً من اعتباره أحد الأعمال الخيرة التي نادى بها الإسلام وشرعها، والتي تعد من الطاعات والقربات التي دعا إليها ورغب فيها. فنظام الوقف يعتبر من المصادر الهامة والرئيسة لحيوية المجتمع الإسلامي وفاعليته، وتجسيد حي ومباشر للقيم التي يتبناها الإسلام والهادفة إلى التكافل الاجتماعي وترسيخاً لمفهوم الصدقة الجارية من خلال رفدها للحياة في المجتمع الإسلامي بمنافع تتسم بالاستمرارية والتجدد، وتواترها بين الأجيال حاملة مضامينها في سلوكيات عملية تظهر من خلالها وعي أفراد المجتمع الإسلامي بمسؤوليتهم الاجتماعية، وزيادة مستوى اللحمة والإيمان والانصهار بقضايا إخوانه المسلمين، ويجعلهم في حركة مستمرة ودؤوبة تجاه همومهم واحتياجاتهم.
إن الوقف في الإسلام هو نوع من أنواع الترابط والتراحم الاجتماعي، وصلة لربط السلف بالخلف، وسبيلا لإعمار المؤسسات الخيرية الاجتماعية والاقتصادية المختلفة كالمساجد والمدارس والمكتبات والأربطة والمصحات والأسبلة وبيوت الفقراء وغيرها، وهو مظهر من مظاهر الحيوية الاجتماعية وتعبيرًا واقعيًا عن النزعة التكافلية التي حضت عليها التشريعات الإسلامية، إلى جانب أن للوقف دورا كبيرا في حماية الأسرة والمحافظة على تماسكها باعتبارها الوحدة الرئيسية في التنظيم الاجتماعي. وبغض النظر عن التطوير المستمر لهذه المؤسسات إلى صيغ أكثر تجددًا ومواكبة لمفاهيم العصر الذي توجد فيه، إضافة إلى الاختلافات في كمية وكيفية تقديم الخدمات الاجتماعية بين مؤسسة وأخرى، إلا أن توفير العلاج والغذاء ومياه الشرب والمأوى والملبس والمأمن والتعليم والمساعدات الخاصة هي في ذاتها خدمات تلبي احتياجات لا غنى عنها للمجتمع، خاصة على مستوى الأسر الفقيرة لرفع مستواها الاقتصادي والعلمي والفكري ولضمان استمرار وظيفتها الاجتماعية تماشياً مع ما نادت به الشريعة الإسلامية.