د.عبد الرحمن الحبيب
بين الحين والآخر تظهر في الدول الغربية عمليات قتل جماعي ينفذها أفراد، إلا أنه في هذه السنة زادت بشكل حاد، إذ بلغ هذا العام وحده في الولايات المتحدة 251 حادثة. السمة المشتركة بين هؤلاء الأفراد أنهم ذوو خلفية إيديولوجية يمينية متطرفة من القوميين البيض الذين غالباً ما يعبرون عن كراهيتهم للآخر سواء المهاجرين أو السود أو المسلمين أو اليهود..
الإعلام الغربي كان يعتبرها هجمات فردية معزولة، بلا هوية، لكن بدأ يستخدم مصطلح الإرهاب القومي (أو اليميني) الأبيض، حتى إنه بعد الهجومين على مسجد النور ومركز لينود الإسلامي بنيوزيلاندا مارس الماضي، نوقش بمجلس النواب الأمريكي حين أعلنت لجنته القانونية عما أسمته «إرهاب اليمين الأبيض» بتقريرها أبريل الماضي، الذي ذكر أنه في السابق كانت أفعالهم معزولة غالباً، ومتقطعة، لكن اليوم، وبسبب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، انفتح المجال أمام الساخطين اليمينيين، وصاروا أكثر تماسكاً إيديولوجياً.. فيما أعمت الدول الغربية أنظارها عن التهديد الذي يمثله هذا الإرهاب وركزت على الإرهاب المنظم لكل من القاعدة وداعش، حسب التقرير.
أما بعد تنفيذ هجومين بوقت متزامن نهاية الأسبوع قبل الماضي في وأوهايو بمدينة دايتون، وفي تكساس بمدينة إل باسو المتاخمة للحدود المكسيكية ذات الغالبية الناطقة بالإسبانية، حيث نشر مطلق النار فيها على النت بياناً إيديولوجيا عنصرياً بموقع يميني متطرف، أصبح الخبراء الغربيون، مع بعض السياسيين، يصنفون هذه الأعمال على أنها إرهاب، كجزء من حركة قومية بيضاء عالمية تُجند أو تُلهم المهاجمين المحتملين أو الذئاب المنفردة، ويجب التعاطي معهم على هذا النحو.
لكن إذا كان الأمر كذلك فأين يتم تجنيدهم، وكيف يتم جذبهم؟ يذكر جيمس بالمر المحرر بمجلة فورين بولسي، أن أكبر موقعي جذب للمتطرفين القوميين البيض هما شان4، شان8 (4chan, 8Chan). الأول أنشئ مع بدايات النت عام 2003، كمنتدى للمناقشة وألعاب الفيديو، لكنه موقع مجهول الهوية وأغلب المشاركين مجهولو الاسم.. والآن ينشر فيه نحو 22 مليون مستخدم؛ يتداولون السخرية والمزاح الوقح وثقافة التنمر وكراهية الآخر، ونظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة؛ ويتم فيها إطلاق حملات عنصرية ومواقع للنازيين الجدد.. وموقع عنصري للمناقشات السياسية هو الأكثر شهرة فيها. أما موقع شان8 فتأسس عام 2013، وهو مشابه لسابقه لكنه أكثر تطرفاً.. يقول روبرت إيفانز من شركة التحقيق المفتوحة المصدر: إن إصدار شان8 له غرض واحد: «تجذير زملائهم المجهولين الاسم من أجل بذل جهد حقيقي في الحياة، أي أعمال العنف في العالم المادي».
السخرية تمنح المستخدمين غطاء ضد المطالبات القانونية بزعم أنه مجرد مزاح بريء، كما تستخدم ألعاب الفيديو للتضليل؛ أما النكات العنصرية فهدفها تجريد الآخرين من إنسانيتهم لتصليب مشاعر التطرف لدى المشاركين، وإزالة أي تعاطف متبق مع الآخر، حسب بالمر.
كيف يتم جذبهم للمنتديات العنصرية؟ تذكر زينب توفيقي الخبيرة في التطرف بالإنترنت (جامعة هارفرد) أن إحدى الوسائل التي تدفع الناس القابلين للتأثر بالمنتديات العنصرية هي وسائل الإعلام الجماهيرية.. فأي هجوم يقوم به المتطرفون البيض يتم تضخيمه للفت الانتباه وتضمينه رسالة بتوجيه الشباب نحو الإيديولوجيات العنصرية من اليمين المتطرف. وتوضح توفيقي أن آليات التجنيد مشابهة لعمل الجماعات الإرهابية الأخرى كداعش؛ حيث يأخذون الشباب الوحيد الحائر ويمنحونهم الشعور بالهدف والهوية، لكنها تختلف عن داعش الذي يعمل كمجموعة واحدة لإقامة مجتمع بديل، فهذه المنتديات متفرقة وتؤسس لعمليات قتل فردية، ويصعب تحديدها ضمن السياق العام للمتبرمين في المنتديات.. اللغة المستخدمة فيها لتشجيع المهاجمين المحتملين تجمع ما بين العدمية والرجولة القاتلة، وتغذيهم بالافتراءات المناهضة للآخر؛ أما المكافأة النهائية لهم فهي إعلان أسمائهم الحقيقية كأبطال بعد انزوائهم خلف أسماء مجهولة.
تقول توفيقي: «قد لا يكون لديهم اسم أو منطقة مادية مثل داعش يمكن تحديدها، ولكن هناك سمات محددة.. ربما هذه هي الطريقة التي سيكون بها إرهاب القرن الحادي والعشرين.. أنها تشير بوضوح لبعضها البعض.. لديهم أدبياتهم.. لديهم طرقهم الخاصة للحديث.. لديهم نكاتهم الداخلية «. النسيج الإيديولوجي الضام لهم هو نظريات ديموغرافية عنصرية ذات أصول أوروبية، مستشهدين بالمهاجمين كأبطال. ويفترض هؤلاء أن الأوروبيين البيض معرضون لخطر الاندثار بسبب المهاجرين، بتواطؤ من النخب السياسية، ويدعون إلى شن هجمات عنيفة لإرهاب المهاجرين المحتملين وفرض حرب عنصرية. كما تلعب المؤسسات العنصرية بالدول الغربية دوراً غير مباشر بدعم الإرهاب القومي الأبيض عبر طرح أشكال متنوعة من التخويف من المهاجرين.
ما الذي يمكن عمله لوقف هذا الإرهاب؟ بعد حادثة نيوزيلاندا، قام مزودو خدمات الإنترنت هناك بحظر شان4 وشان8، لكن ينبغي وضع شروط خدمة أكثر صرامة تؤدي إلى طرد القوميين البيض من المواقع بسرعة والرد على الأحداث بشكل أسرع، كما يقترح المختصون.. بالإضافة إلى وضع قوانين أكثر صرامة لاقتناء السلاح.. إلا أن كل الوسائل المتاحة حالياً لن تمنع ارتكاب حوادث القتل الجماعي، والخشية أن تتحول تلك الهجمات إلى أمر طبيعي كحوادث السيارات، مثلما خشي عضو مجلس الشيوخ كوري بوكر، متحسراً من إنه يبدو أن الولايات المتحدة «تقبل فكرة استمرار حدوث عمليات إطلاق النار كهذه بصورة منتظمة».