د.فوزية أبو خالد
1 - صور شعرية
ألهمتني بعض الصور المختطفة من مسيل موسم الحج لهذا العام لأكتب شعرًا مصفاً مستمدًا من شهادتها المكتوبة بعدة لغات عن مواقف ووجوه وأفعال وبطولات صغيرة من لحم ودم، وأمكنة من أجنحة خفاقة، لمشاهد شاهقة مأخوذة من قلب الحج مما عادة تغفل عنها عين كاميرا الإعلام التقليدية، إلا أن عيونًا مبدعة استطاعت أن تكتب بها قراءة مختلفة للحج بمعناه الديني والإنساني والفلسفي العميق.
وقد حاولتُ تحويل دهشتي بهذه الصور الخلابة إلى شعور عام فسميت ملف الصور الأخاذ الذي حرره الأخ محمد شيبة الشهري بـ»ديوان قصائد بصرية» وكتبت عن صور ذلك الملف، كما كتبت عن صور أخرى تضاهيها بهاء وجمالاً من تصوير آخرين وأخريات وسميتها بـ»مشاهد شعرية». ولقد غردت بالكثير من تلك الصور التي وصلني معظمها من منصات إلكترونية.. واتساب، سناب تشات فيس بوك وتويتر. غير أن كل ذلك لم يرويني فقمتُ على غير عادتي بكتابة تغريدة خاصة ووجهتها مباشرة لوزير الثقافة الأمير بدر آل فرحان بالنص التالي:
@BadrFASaud «أقترح أن يكون هناك تكليف من قبل وزارة الثقافة للقيام ببحث استقصائي لانتخاب اللقطات العفوية النادرة المتموجة بحركة النهر البشري أيام الحج مع تكليف لاحق بكتابة سيناريو إنساني شعري وليس دعائيًا لهذه الصور أو لموضوعها لإنتاج فيلم إبداعي يمكن إيداعه المكتبات العالمية ومتاحف المواد البصرية المميزة بما فيه مكتبة الأمم المتحدة ومكتبات عدد من الجامعات الدولية ليعكس صورة تتحدث عدة لغات حية للوجه الحضاري للمملكة مجتمعًا ودولة»..
ورغم أن الوزير لم يرد ولا حتى بإشعار بقراءته للتغريدة الموجهة له، فقد كتبت تغريدات أخرى منها «إن صورة جندي يحمل سيدة مسنة وكأنه طالع من أحشائها غير منتبه للكاميرا، وصورة شابة من الكشافة تسقي طفلاً وكأنه رضيعها، وصورة سيدة تترجم لغة الإشارة إلى عنوان للمساواة غير آبهة بالأضواء، صورة مواطنين عاديين يفرشون طريق الحج بشهد الترحاب وعسل الابتسام غير منتظرين أي مقابل هي اللغة الجديدة المفعمة بمحتوى حضاري بعيدًا عن الشعارات.
إننا إذ نردد بفخر تقديم خدمات خمس نجوم ليس لأغنياء يدفعون بل لمن لا يملكون إلا شوق الوقوف على جبل عرفات.. فإن مثل هذه الصور هي ما يستحق التدوين حقًا في كتب وأفلام لنعيد قراءتنا لأنفسنا ولنقدم أنفسنا في قراءات نوعية متجددة للعالم وللأجيال.
2 - محتوى حضاري
كنت قد كتبت في أكثر من موسم من مواسم الحج عن الحج عن أنثروبولوجيا الحج وعن سيسيولوجيا الحج وعن شجن الحج الشعري وعن سر الحج السردي وعن صور الحج الروائية وعن العمق التساؤلي والفلسفي للحج وعن البعد الأسطوري للحج وعن بطولات الحاج الإنسانية وعن سِفر الحج وعن رحلة الحج الكونية وعن مواقيت الحج ومعانيه التطهيرية عن حرمة أيام الحج وعن قدسية الحج، عن الحج برمزية علاقته بخطبة الوداع وعن الحج كمعجزة ربانية وكركن من أركان الإسلام وكفريضة سمحة مقرونة بالاستطاعة، مما وثقته لي دار نشر مسعى لصاحبها محمد المحيا في كتاب كمين الأمكنة إلا أنه ما زال في الروح ظمأ لاكتشاف معانٍ لم تكتشف بعد لهذا التجمع البشري السنوي المهيب بين يدي الرحمن.
لقد كان موسم الحج بالنسبة لي وللكثيرين ولا يزال سفرًا ذهنيًا بقدر ما هو تجربة ميدانية لا تتكرر وإن حج الإنسان مائة مرة. فالكتابات الشغوفة التي كتبت في رحلة الحج أو في حنينها بحبر القلب ودمع العين تبقى خالدة لتحفر في تلك الطرقات الموحشة التي عبر تواريخ مختلفة كان يمشي فيها الحاج أعزل من ماء وزاد وأي عتاد ليبلغ مهوى الأفئدة على قدميه في عدة أعوام. ولقد ظل بعضها يحكي وإن جفت الصحائف قصصًا عن قوافل الحجاج من عهد قوافل الإبل والبواخر إلى عهد قوافل السيارات والأساطيل الجوية فالمنتهى المنشود عند أستار الكعبة وعلى تراب منى وعرفات يوحد بين شدادي الرحال أنى أتوا من مشارق الدنيا ومغاربها أو من شمال القارات إلى جنوبها.
ومن تلك الكتابات الحفرية كتاب الطريق إلى مكة للعالم النمساوي محمد أسد، وأشهر رحلات الحج التي جمع شملها العلامة حمد الجاسر ومجلدات المختار من رحلات الحجاز لمحمد الشريف وكتاب رحلات الحج بأجزائه الثلاث لأحمد محمد محمود، وبتاريخ أقرب هناك الكتاب الفائز بجائزة جامعة برنيستون الأمريكية للبرفسور عبدالله حمودة في كتابته الأنثروبولجية عن رحلة الحج عام 2005م بما يشبه البوح الروائي في التقاط التفاصيل وفي التعبير عن اللا مرئي واللا منطوق عادة من ملذات الجوارح وإجهاد الجسد في تجربة الحج.
وربما آن الأوان لجامعاتنا وللمؤسسة الثقافية كما تمثلها وزارة الثقافة اليوم ولنا على مستوى تباريح فردية أن ندلوا بدلونا المعرفي في النهر الذي يمر أمامنا كل عام ولا نلحظه وربما لن نلحظه إن لم نره بغير عين الاعتياد لنعيد النظر فيه بعين لهفة معرفية تجديدية تستطيع استكشاف الشكل الشعري والمحتوى الحضاري لموسم الحج كما فعلت عين الكاميرا الجديدة.