محمد الشريف
1- لم تكن صديقًا فحسب أبا طلال؛ بل كنت بمنزلة الأخ الشقيق، والرفيق، والمؤانس، والمستشار، وكاتم الأسرار.. بل أكثر من ذلك كله.
2- كنتُ آنس لك وبك مذ عرفتك، ولمست تقاربًا معك في الرؤى والأفكار وبعض الطباع، وإن كنت تفوقني في الكثير منها؛ ومن ثم فقد أضفت إليّ رصيدًا مما تمثلته فيك، وحاولت اكتسابه منك، فواأسفي على فقدك ملهمًا ومغنمًا!
3- هل تذكر؟.. كنتَ عونًا لي في البر وفعل الخير والصلات الاجتماعية؛ إذ كثيرًا ما يقترح أحدنا على الآخر زيارة مريض، أو صديق، أو كبير في السن، أو مَن له علينا حق الزيارة، وكنتَ تصحبني أو أصحبك تبعًا للاتجاه الذي يقع فيه منزل مَن نريد زيارته نسبة لموقع منزلَيْنا. فواأسفي على فقدك عونًا لي على البر والصلة!
4- هل تذكر؟.. كثيرًا ما أهاتفك فأجدك كعادتك تمارس رياضة المشي التي لم تتخلَّ عنها يومًا - كما أعرف - فأسارع إلى لقائك في أثناء المشوار لأكمله معك مستمتعًا بما يجري بيننا من أحاديث في مختلف الشؤون. وأعترف بأنني لم أكن أجاريك في خاصية المشي التي انفردت بها.. لكنك مشيت مشوارك الأخير دون علمي، وخلفتني أسير الأحزان والهواجس والظنون.
5- هل تذكر؟.. حين بعثتُ لك برسالة هاتفية وأنت في إجازتك الأخيرة، ذكرتُ لك فيها أنني أقضي أسبوعًا في البحر في سفينة تشبه الفندق العائم، فيه مئات الغرف وآلاف النزلاء والعاملين، يجوب البحر في منطقة باردة، وأنني أجد في ذلك هدوءًا للنفس ومتعة للنظر، وأنك قلت لي في رسالتك الجوابية: «تجربة مثيرة وفريدة، وغير مكلفة مقارنة بالفنادق، مررنا بها مرتين. ليتكم تختمونها بزيارة لأخيكم، تروون فيها تجربتكم مشافهة. نحن في شوق لأحاديثكم عن هذه السياحة النوعية». يا له من رد! حتى في مجال الرسائل العفوية المتبادلة بين الأصدقاء تأتي كلماتك مؤطرة بالأدب والتهذيب واللغة، بل الكرم المعهود عنك؛ إذ دعوتنا لزيارتك.
6- هل تذكر؟.. كنتُ مرة أقضي إجازة قصيرة في الشمال الإيطالي، وهاتفتك لأعرف أخبارك وأنت حينها تقضي إجازتك في مكانك المعتاد (فرنسا)، فأبت شهامتك وأريحيتك إلا أن تصر على زيارتي أنا حيث أكون، وقضينا حينها أوقات هادئة، كشفت وأكدت لي المزيد من شمائلك وطباعك النبيلة.
7- في رحلاتنا الشتوية السنوية التي اعتدنا عليها - نحن رفاق الشورى السابقين - التي يستضيفها أخونا الكريم الدكتور زياد السديري تأبى إلا أن تكون أنت المنسق لها، والمخبر بتفاصيلها، وموعد انطلاقها، بل المستقبل والمستضيف للمجموعة على الغداء في منزلك غداة انطلاقها. كما جعلت من منزلك مكانًا لاستقبال أمتعة الجميع ليلة المغادرة، وكنت تحرص على متابعة حضور أعضاء الرحلة واحدًا واحدًا، والتأكد من حضور الكل، وتوافر وسائل النقل الكافية، ثم الانطلاق في وقت واحد، وحتى أثناء الطريق تحرص على متابعة تتابع وسائط النقل، وعدم تخلُّف أي منها، أو فقدها الاتجاه الصحيح. ولا أنسى جهود ساعدك الأيمن في ذلك اللواء عبد القادر كمال.
لقد أتعبت نفسك في سبيل راحتنا، وأتعبت بالتالي مَن يأتي بعدك. ولا نملك وقد فارقتنا وسبقتنا إلى لقاء ربك إلا أن ندعو لك مخلصين متضرعين إلى الله سبحانه الذي اختارك من بيننا إلى جواره بأن يجزيك عنا خير الجزاء، ويُنزلك في أعلى درجات جناته إلى أن نلقاك - إن شاء الله - في لقاء لا فراق بعده.
8- أبا طلال.. لقد عشت حياة فريدة مليئة بالحرمان، وبصنوف شتى من الأحداث والمآسي والأحزان، وفق ما نقلته لنا في سيرتك (مشيناها.. حكايات ذات) التي أعانك الله على البوح بها قبيل مفارقتك، بيد أنك استطعت مواجهة تلك الجوانب من حياتك بالصبر والتحمُّل والعزيمة والعلم والعمل؛ فارتقيت بنفسك في مصاف العلم إلى أعلى درجاته، وكنت أول مواطن في المملكة ينال درجة الدكتوراه في تخصص الإعلام، وكان ذلك من جامعة أوهايو في عام 1971م، ومنها وبها انطلقت إلى تسنم المراتب والمناصب في مجالات عدة، أبرزها الإعلام والثقافة والتاريخ والأدب والتأليف وتوثيق السير، واعتلت مؤلفاتك أرفف المكتبات والصالونات الأدبية والثقافية، ولم يغب اسمك أو شخصك عن الملتقيات الوطنية الحوارية، ونلت أصنافًا عدة من الأوسمة والجوائز، كان خاتمتها وتاجها وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، الذي تقلدته من يد خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله -.
ولعمري إن مثلك لم يمت؛ فآثارك ومآثرك ستبقيك حيًّا في أذهان مَن عرفك، أو سمع عنك، أو قرأ شيئًا من مؤلفاتك.. فاخلد هانئًا بجوار ربك، وليخفف الله آلام فَقْدك وفراقك على أسرتك بالصبر. ولنا في كل من حرمك الفاضلة أم طلال وكريمتَيك الفاضلتَين رشا وشادن، وخليفتك الشاب المحبوب عبدالرحمن بن طلال، وبقية أحفادك، خير خلف لخير سلف.. ولتهنأ في مقامك؛ فكلنا بك لاحقون.
9- أبا طلال.. تزامُلنا في مجلس الشورى على مدى اثني عشر عامًا رسخ أواصر الأخوَّة والمحبة بيننا، وعمَّق مشاعر التواد والتقارب في الرؤى والأحاسيس، وكان من ثماره التعاون في دراسة الكثير من الموضوعات التي تُعرض على المجلس، وتشكيل ما نخرج به من ذلك في صيغ آراء ومداخلات أو مقترحات، غايتها أداء الواجب في خدمة الوطن. وقد أثمر ذلك التعاون - وأنت أحد رواده المبرزين - بعد انتهاء دورنا في المجلس، نحن الأعضاء الثمانية الذين أكملوا في عضويته الدورات الثلاث الأولى، وهم كل من - مع حفظ الألقاب - (زهير السباعي، زياد السديري، صالح المالك -رحمه الله-، عبد الرحمن الجعفري، عبد الرحمن الشبيلي -رحمك الله-، عبد العزيز النعيم، فالح الفالح ومحمد الشريف).. أثمر تسجيل رؤاهم وآمالهم في تطوير المجلس في كتاب (مجلس الشورى - قراءة في تجربة تحديثه) الذي كان لك الفضل في تنسيقه وتحريره وفق ما دوّنه كل منهم، الذي طُبع مرتين، أولاهما في العام 1429هـ، وكان الوفاء عنوانه؛ إذ كان الإهداء فيه إلى زملائنا السابقين الذين فقدناهم (إلى شيخنا الفقيد محمد بن جبير، وإلى زملائنا الراحلين: عبد العزيز الرفاعي، محمد السالم، عبد القادر كوشك، عبد الله الدباغ، جميل الميمان، مانع الجهني، عبد الله المنيفي، مسلم الشامان، باسم آل إبراهيم، عبد الله القرعاوي، سالم القرشي، صالح المالك، يوسف السلوم، محمود طيبة ومنصور عبد الغفار.. رحمهم الله جميعًا).
وها أنت قد انضممت إلى الراحلين؛ فجزاك الله بمثل ما يجزي به عباده الصالحين، بروح وريحان، وجنة نعيم، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.