نزار عبيد مدني
إذا كانت وفاة شخص عزيز أمراً مؤلماً - رغم أن قوانين الحياة تفرض على المرء تقبل هذا الأمر لأن الموت حقيقة واقعة ومصير كل حي - فإن الأكثر إيلاماً هو أن تأتي الوفاة مفاجئة، مما يُوَلِّد في البداية شعوراً بالذهول وعدم التصديق، وإن كان يؤدي في نهاية المطاف إلى التسليم بقضاء الله وقدره.
كنت خارج المملكة حينما نزل عليَّ كالصاعقة خبر الحادث الذي تعرض له أخي وصديقي المرحوم الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، لم أعرف في حينه ماذا أفعل وكيف أتصرف، اتصلت في البداية بمن استطعت التواصل معه من عائلته وأصدقائه الخلَّص لأستطلع الخبر وأتبيَّن مدى خطورته وفداحته، وكانت محصلة جميع الاتصالات غير مطمئنة على الإطلاق، ثم لم تمض سويعات حتى تأكد الخبر الحزين المؤلم..
نعم.. لقد رحل.. رحل طيب السيرة.. رحل من تجسدت فيه معاني الوفاء والتواضع وعزة النفس.. رحل من تميز بالنزاهة في أسمى معانيها، وبالوطنية في أرقى مدارجها.
لقد أثارت فاجعة رحيله ومفاجأتها غصةً في الحلق، وانطفاءً لومضة نبل إنساني، وصدمةً موجعة ليس لأهله وذويه وأصدقائه ومعارفه فحسب، وإنما لكل من سمع عن سيرة هذا الرجل النبيل الذي عاش طيلة حياته مرفوع الرأس، عفيف اللسان، معتدلاً وعادلاً في آرائه ومواقفه الإنسانية والوطنية، نائياً بنفسه عن المحاباة، أو التعصب، أو التمييز والمفاضلة.
عرفته.. فعرفت فيه صفاء النفس، ورقة المشاعر، ونبل المقاصد، وعركته.. فأدركت فيه من الخصائص ما لا يتوفر إلا في النفوس الكبار، وتابعت مسيرته عن كثب.. فلاحظت أنه كان دائماً يعمل في صمت، ولا يذكر نفسه إذا ذكر الناس أنفسهم، ولا يتطلع إلى شيء بقدر تطلعه إلى الخير العام وللصالح العام.
لقد زاملتُه في العمل في مجلس الشورى، وجاورتُه في السكن، وسعدتُ بصداقته ردحاً طويلاً من الزمن فوجدته مثقفاً، واعياً، صبوراً، هادئاً، ذا تفكير عقلاني وطبيعة لا تأبه بالأضواء، ولا تتزلف الثناء، أو تنخدع به، بل إن المديح أصلاً لا يجد صدى في نفسه، فلم يكن يلقى له بالاً أو يعطيه اعتباراً.
إن كل من عرف شخصية عبد الرحمن الشبيلي تلك يدرك أنه يقف أمام إنسان قوي الحجة، واضح الرأي، مع أنه - في الوقت ذاته - يؤثر التسامح، ويتجنب الصراع، وأحسب أنه يحمل في داخله قلباً لا يقوى أصلاً على المناكفات، دون التنازل عما يعتقده يصبُّ في الصالح العام.
منذ أن عَرفته وجدته ذهباً لا تزيده الأيام إلا لمعاناً وبريقاً وقيمة، خبرته سمحاً متسامحاً، يترفع عن ساقط القول والفعل، يتجنب القول في أعراض الناس وقول السوء، كما تيقنتُ أنه لم يكن ممن يبحثون عن الأضواء ويقتنصون لحظات الظهور وتصدر وسائل الإعلام حتى وهو أقرب المقربين إلى تلك الوسائل، فقد كان تواضعُه أهم عليه وأقرب إليه من الشهرة وبريقها، لقد آثر الهدوء على الصخب، واختار الظل على الأضواء، فأنشأ لنفسه مناخاً خالياً من المنغصات، يتابع فيه بحوثه ودراساته، ويمارس رياضته اليومية المفضلة (المشي)، ويلتقي بمحبيه وزائريه، ويرعى شؤون أسرته، ويقوم بواجباته الاجتماعية.
حصل من الشهادات أبرزها وأعلاها، ونال من الجوائز أسماها وأرقاها، وتقلَّب في مناصب عدة مهمة (الإعلام - التعليم - الشورى) فأجاد فيها وتَميَّز، على أن مجالات الإعلام والثقافة والتوثيق والتأليف والعلاقات الاجتماعية كانت هي المجالات التي وجد الفقيدُ فيها نفسه، واكتشف من خلالها طبيعتَه الأصلية فحَلَّق فيها وأبدع، وانصبَّتْ اهتماماته الفكرية ونشاطاته التأليفية في جانبين هما: التاريخ للمسيرة الإعلامية في المملكة، والتي عاصرها وعرف كل دقائقها وخباياها، ووثَّق جميع مراحلها وأحداثها، وكتابة السيرة لعدد كبير من الشخصيات الوطنية سواء في مجال الفكر أو الثقافة أو الإدارة.
حين شرعتُ قبل سنوات في كتابة سيرتي الذاتية كنت أتبادل معه الرأي والمشورة، وكان كعادته دوماً.. دقيقاً في ملاحظاته، موضوعياً في نقده، أميناً في متابعته واهتمامه، وقد حاولت بشتى الطرق في تلك الأثناء إقناعه بالبدء في كتابة سيرته الذاتية، خصوصًا أنه كان ضليعاً في هذا المجال بعد أن تألق وأجاد في كتابة سير الآخرين، ولكنه كان يأبى ويتمنع، ويسوق في ذلك شتى الحجج والذرائع، وحين بلغ بي اليأس مبلغه كففت عن المحاولة، وكم كانت مفاجأة سارة حين هاتفني في مساء أحد الأيام منذ شهور خلت قائلاً: سوف أبعث لك هدية أعلم أنك كنت في انتظارها منذ أمد بعيد، وهي سيرتي الذاتية التي اخترت أن أسميها: «مشيناها.. حكايات ذات..»، ولم يخطر ببالي حينئذ أن شعوراً دفيناً بقرب النهاية ربما كان هو الدافع إلى تخليه عن إحجامه عن كتابة سيرته الذاتية.
كان - رحمه الله - من الذين يُفتَقَدون إذا غابوا، ويُسْعَدُ بهم إذا حضروا، قليل الكلام، وإذا تكلم فبهدوء أقرب إلى الهمس، وبتواضع أقرب إلى الخجل، وكان من الذين يفضلون الإصغاء أكثر من الميل للحديث، ولكنه إذا تحدث فإنك لا تملك سوى الاستماع إليه باحترام، والإنصات إلى ما يقوله باهتمام.
إن لساني يعجز عن التعبير عن الفجيعة برحيله، وقلمي لا يقوى على سرد جميع مناقبه وخصاله، وما أوردته في هذه العجالة هو غيض من فيض لا يخفى على كل من عرفه أو أدرك شيئاً من مواقفه وفضائله، وحسبي في ذلك ما نَبَضَتْ به مشاعرُ كل من كتب عنه ورثاه.
لقد فارقنا أبو طلال، وفارق أهله ومحبيه على غير وداع، واختطفه الموت من بيننا فجأة كأنه اختلسه اختلاساً، ولكن أمثاله تموت أجسادُهم لأن الموت حق على الأحياء جميعاً، ولكن ذكرهم الطيب وذكراهم العطرة لا يمكن أن تفنى وتموت لأنهم فرضوا أنفسهم على الزمان وعلى الناس فرضاً.
رحمك الله يا أبا طلال، وأعلى منازلك في الجنة، وأحسن عزاء رفيقة دربك ومستودع أفراحك وأتراحك، وأعظم أجر بناتك وأحفادك، وجبر مصابنا ومصاب الوطن فيك، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.